عبدالهادي بلخياط الفنان الدرويش الذي أطرب الملوك والشعوب
في كل مرة يطرق سمعك اسمه تنتقل ذاكرتك السمعية إلى إحدى أغانيه المشهورة “وقطار الحياة والقمر الأحمر وبلادي” وغيرها.
ولا تكاد تنظر إليه الآن بلحيته الكثة وجلبابه وطربوشه إلا وتتذكر أن الرجل الذي خلق الحدث عندما قرر اعتزال الغناء والانتقال إلى مجال الدعوة بين محبذ للفكرة وآخرون قالوا إنها خسارة للفن المغربي بعد ابتعاد الرواد. فعلا خلق الحدث باعتزاله وأيضا بقرار عودته هذه الأيام إلى الساحة الفنية يحمل في جوفه أغنية وطنية أعلنت عنها ابنته مريم.
وبعد عقود من الطرب والتعامل مع النوتات والآلات الموسيقية لقّب بعملاق الأغنية المغربية، انضم الفنان المغربي عبدالهادي بلخياط في العام 2012 إلى جمعية “جماعة التبليغ والدعوة إلى الله”، والتي تعد أقدم حركة إسلامية بالمغرب، تأسست بين 1962 و1964 من القرن الماضي وتعرف بالهدوء في أنشطتها الدينيّة دون غلو رغم أن السلطات لم تعد تتشدد مع قادتها إلا أنها كانت حذرة دوما في التعاطي معهم، وتم تلقيبه بالشيخ بعدما أخذ على عاتقه الدعوة إلى الله.
حياة الشيخ الجديدة
هذا الوضع الاعتباري داخل الجماعة، لم يعد يسمح للشيخ بلخياط بمواصلة الغناء في أجواء لم تعد تحترم الضوابط، وهكذا قرر آنذاك التفرغ لنشاطه الدعوي الذي كان بدأه منذ 24 سنة لما كان مؤذنا في مساجد بباكستان والهند وبنغلاديش، والانتقال من أداء أغان عاطفية إلى أخرى ذات طابع روحاني أرجعه الشيخ عبدالهادي إلى السن المتقدم ويجب عليه أن يهيّئ نفسه للرحيل.
لقد نذر صاحب “الصنارة” و”ما تاقش بيا” ما تبقى من جهده لتقديم أعمال دينية جديدة على شكل أدعية برفقة الأطفال دون استعمال أدوات موسيقية، على غرار قصيدة “المنفرجة” و”أسماء الله الحسنى”، ضمّنها الدعاء الناصري الذي تم تسجيله وسيذاع لأول مرة بمناسبة شهر رمضان المقبل. كما سجل 30 دعاء تذاع في رمضان.
وبعد ثلاث سنوات من اعتزاله قرر بلخياط العودة إلى الغناء الديني إذ أحيا حفلا ضمن فعاليات مهرجان موازين في يونيو 2015 قدم مجموعة من الأغاني الصوفية الدينية منها القديمة مثل “المنفرجة”، وهي قصيدة لابن النحوي، و”يا قاطعين لجبال” و”سيد الناس” و”يا من إلى رحمته المفر”، وقد استحسن الجمهور المغربي هذه العودة لفنان أعطى الكثير للساحة الغنائية الوطنية ويحتل مكانة كبيرة في قلوب المغاربة والعرب.
“صدمنا أنا والعائلة بقرار اعتزال الوالد لكننا احترمناه في نفس الوقت” هكذا اعترفت مريم بلخياط، ابنته التي تعمل مصممة أزياء، معتبرة أن قرار والدها يعتبر صائبا، لأنه اختار التوجه إلى طريق الله، ولا يوجد ما هو أفضل من ذلك.
أحد المعلقين قال إن بعض الناس يتحدثون عن توبة الفنان المقتدر بلخياط ، وكأنه كان مشركا فشرح الله صدره للإسلام. لقد قرر مطربنا المتميّز عدم تأدية الأغاني العاطفية، وهي بالمناسبة راقية في كلماتها وألحانها، وليس فيها ما يخدش الحياء، التغني الجميل والسامي بالحب ليس خطيئة أو عارا ينبغي غسله، بلخياط فنان مغربي من العيار الثقيل، لقد متعنا على مدى سنوات بروائعه الخالدة، وشنف آذاننا بحنجرته الذهبية من حقه علينا أن نحترم اختياراته.
أما الفنان المغربي محمود الإدريسي، فيؤكد أن بلخياط لم يعتزل. ويضيف “كلما التقيته يسمعني أغنية جديدة”، مضيفا “أن كل ما هناك أن الجمهور لم يفهم قصده، حيث قال لي شخصيا إنه غيّر اختياراته الغنائية، وقرر أن يغني مواضيع اجتماعية، ومواضيع دينية تضم النصح والدعوة إلى الخير، بعيدا عن مواضيع (الغراميات)، لأنه لم يعد راضيا عن ذلك، احتراما لسنه الذي لا يسمح له بالغناء العاطفي”.
بعد سنوات من اعتزاله تعود ابنته مريم عبر إنستغرام لتزف خبر عودة والدها إلى الغناء في يوليو 2018 بعد مدة طويلة من اعتزاله، حيث أصدر أغنية وطنية بعنوان “المغرب بلادي”.
المغرب بلادي
في مدينة فاس، التي كانت مسقط رأس بلخياط في العام 1940، ولد عشقه للموسيقى منذ صباه الباكر. ما جعله ينتقل إلى الدار البيضاء بفضل صوته القوي الدافئ وحضوره الكاريزماتي الطاغي، واستطاع أن يفرض اسمه بسرعة داخل الأوساط الفنية والجمهور.
كانت ظروف الأسرة المادية الضعيفة قد غيّرت حياته، حيث أنه لم يكمل تعليمه الابتدائي وتحمّل أعباءها بمساعدة الوالد في ورشة النجارة، وعمل سائقا بوزارة الشباب والرياضة.
تنقّل بين فاس والدار البيضاء والرباط حاملا بين أضلعه مشروع فنان ما فتئ يعبر عن طموحه ويستغل كل فرصة متاحة لإبراز موهبته فسجل أولى أغانيه بداية الستينات بدار الإذاعة في الدار البيضاء، وكانت رحلته إلى القاهرة تجربة اكتسب من خلالها ثقة عالية في النفس وعاد ليؤدي أغاني محمد عبدالوهاب بجدارة ثم طور أداءه فزاوج بين الأغاني بالفصحى والدارجة المغربية.
تميز صوت بلخياط مقارنة مع أقرانه بطبقة صوتية تعدّ من أخفض الطبقات الصوتية الرجالية مع تمكنه من الإشباعات النغميّة للموسيقى العربية عامة والمغربية بشكل خاص.
ويقول المايسترو نبيل أقبيب إن له طبقة رخيمة ذات بعد عميق، وتشخيص يقارب سبر أغوار المقامات الموسيقية، حتى أنه ما فتئ يشكل مرجعا وسندا لأصوات باتت تقلده وتنحى منحاه، دون نسيان مسألة ارتباط بلخياط الملحن بقدماء الشعراء وكتاب الكلمات في ستينات القرن الماضي كالحداني والصقلي.
أطرب بلخياط بصوته الرخيم كل الحاضرين بالأولمبيا بباريس، كونه يعلم مدى شوق وتلهف المهاجرين من أبناء المغرب العربي للاستماع إلى أغان تذكرهم بموطنهم الأم وتشحذ همتهم في مصارعة قسوة الغربة، كما خاض تجربتين سينمائيتين إلى جانب المخرج عبدالله المصباحي أولاهما عام 1973 بعنوان “سكوت.. اتجاه ممنوع” والثانية عام 1979 بعنوان “أين تخبئون الشمس”.
وقبل أن يسدل لحيته ويستبدل البدلة بالقميص الأبيض وتنطبع بجبهته علامة السجود، قال بلخياط “كنت أعيش في عالم آخر”، قبل أن يتوب إلى الله ليجد نفسه، كما قال، في عالم مغاير تماما يشعره بالسعادة الداخلية، فالمقصود من الحياة هو محبة الله تعالى ورسوله الكريم.
وبداية توبته كما يسردها صاحب أغنية “يا البوهالي” جاءت عندما كان مسافر يوما إلى بروكسل وكان له في نفس الفترة موعد فني لإحياء سهرة، وشاء القدر أن “أجد أمامي على الجانب الأيمن مجموعة من الرجال بجلابيب وعمائم بيضاء ينتظرونه، وفي الجهة المقابلة أصحاب ربطة العنق ينتظرونه للسفر معهم لأجل السهرة، فشعرت بحيرة كبيرة في هذا الموقف، حيث كان ذهني لم يستوعب بعد مساري في الحياة، ولا الاتجاه الذي علي أن أسلكه، فقررت بأن أتبع أصحاب العمائم واللحى ولم أجد بعد ذلك اللقاء سوى الراحة النفسية لكونه اختار صف الدين والدعوة”.
الهجرة إلى المشرق والعودة
الفنان يتوفر على رسالة يجب أن يؤديها على أكمل وجه احتراما لجمهوره الذي يمنحه الأحاسيس الجميلة والمشاعر الطيبة ومنها يستلهم إبداعاته وعطاءاته لهذا الجمهور، هذه كلمات بلخياط قبيل قرار اعتزاله الغناء في العام 2010، وبأنه سيتفرغ إلى الابتهالات والإنشاد الديني لأنهما غذاء للروح والوجدان.
ولهذا فقد دخل تجربة الهجرة الفنية نحو المشرق في بداية السبعينات، إلا أنه لم يستمر كثيرا بعدما ارتأى أن يسير في الأغنية المغربية لأن لها خصوصياتها ومميزاتها، وأن أغانيه باللهجة المغربية نالت إعجاب جماهير عربية عريضة في عدد من المهرجانات في كل من لبنان وسوريا ومصر، إضافة إلى بلدان الخليج العربي.
بعدما احتك بعالم الموسيقى في مصر وتوصل إلى قناعة بأن الموهبة وحدها لا تكفي للنجاح بل لا بد من تكوين موسيقي، دخل المعهد العالي للموسيقى العربية بالقاهرة، وتعرّف خلال هذه الفترة على العديد من الشعراء والملحنين، مشيرا إلى أن قرار العودة إلى المغرب اتخذه بعدما أصر على أداء لونه الأصلي المغربي، ولم يقبل أن يغني باللهجة المصرية.
كثيرا ما استقبل صاحب أغنية “أنا فقير ودراهم يومي معدودة” الجمهور المغربي بالتصفيق والفرح مهما كانت المقطوعات التي يؤديها ويبدع فيها من ابتهالات إلى أغان وطنية وأخرى عاطفية جعلت الفنان المغربي يبادل جمهوره مشاعر إعجاب ومودة وتقدير، كان دوما قريبا من أبناء بلده ويغني لهم ولأجلهم ويعكس همومهم وأفراحهم.
الكلمة الرصينة واللحن القوي هما ما جعلا الأغنية تقاوم الانجراف التام، فالجمهور بالنسبة لبلخياط لا يزال يعشق أسلوبه في الغناء وشخصية الحكواتي التي يتقمصها فوق أي خشبة يعتليها وهو ينشد أغاني يروي من خلالها مآسي العشاق وقصصا من الحياة.
وحتى احتفالات رأس السنة يفلسفها حسب قناعاته وتركيبته النفسية وتكوينه، فقد قال بلخياط إن رأس السنة يذكره دوما بأن السنين تنقضي والإنسان لا يدري قيمة ما يمر عليه، هي مناسبة لكل إنسان ومسلم ليتذكر الغاية من خلقه، ويعمل للصالح العام بالخير، ولصالح نفسه بالتقوى، وعموما الأغاني التي أديت كلها رسائل تذكير وتأمل في الحياة، كـ”بنت الناس” و”قطار الحياة” وغيرهما.
في صورة خاصة لعبدالهادي بلخياط برفقة العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، تبرز المشاعر الخاصة التي كان يكنها الملك لهذا الفنان الأصيل. حيث ظهر الحسن الثاني وهو يضع يده اليمنى على كتفه كأنه يتكئ عليه. وكان الملك الراحل يحب الاستماع إلى بلخياط الذي شارك بأغنية “المنفرجة” الصوفية في مهرجان فاس للموسيقى الروحية بطلب من الحسن الثاني، والتي حققت حينها نجاحا كبيرا.
وفي أحد الأعياد الوطنية لسنة 1971، كان بلخياط في حضور الملك الراحل، بمعية مجموعة من ضيوفه الفنانين المصريين، على رأسهم الموسيقار محمد عبدالوهاب والفنان عبدالحليم حافظ، طلب حينها عبدالوهاب من الملك الراحل السماح للفنان بلخياط حتى يسافر للقاهرة من أجل الاشتغال سويا، وهو الأمر الذي جعل الملك يدنو من بلخياط ويهمس في أذنه بتهديد واضح.
وفي تفاصيل الواقعة، قال بلخياط في فيديو منشور عبر يوتوب، إن الملك الراحل طلب منه خلال العيد المذكور سالفا، أداء أغنية ما، ليخيّره بلخياط بين ما يود سماعه، فرد عليه الملك “أي حاجة أنت حافظها”، فاقترح بلخياط أغنية “ست الحبايب”، علما أن حضور أصحاب هذه المقطوعات كان يضعه فعلا في موقف مسؤولية كبيرة، هذا دون الحديث طبعا عن الهبة المعروفة عن الملك الحسن الثاني وعبدالوهاب.
واستدرك بلخياط “بينما كان يؤدي الأغنية سمع موسيقار الأجيال يتحدث لأحد الحاضرين إعجابا بطريقة الأداء؛ وحين أنهى الوصلة الطربية، قام عبدالوهاب وتوجه للملك طالبا منه السماح لعبدالهادي بلخياط حتى يسافر للقاهرة من أجل الاشتغال سويا؛ وبعد لحظة بياض عمها الصمت المطلق، يتذكر بلخياط، نادى عليه الملك “عبدالهادي أجي”؛ وبمجرد أن دنا منه، همس في أذنه محذرا “شوف والله وامشيتي معاه حتى ندخلك للحبس”؛ مضيفا بوطنية قل نظيرها “هو عبدالوهاب فبلادو وأنت عبدالهادي فبلادك”.