الملك محمد السادس يقدم برامج إصلاحية من مدينة “حراك الريف”
بعث العاهل المغربي الملك محمّد السادس بالعديد من الرسائل السياسية القوية بإلقائه خطاب العرش في مدينة الحسيمة أو ما بات يعرف بـ”حراك الريف”، وعلى رأسها دعوته إلى الوحدة والتضامن بين كل المغاربة.
وأكد مراقبون أن إلقاء الخطاب الملكي من الحسيمة يعد رسالة قوية من الملك بأنه لا يتدخل في القضاء وفي إصدار الأحكام رغم أنه الضامن لاستقلاليته بنص الدستور، معتبرين أن الزي الذي اختاره والظهور بعمامة سوداء تتوسطها نجمة حمراء تحيل إلى شارة القوات المسلحة الملكية كانت بمثابة إشارة إلى هيبة وسلطة الدولة وأن مجرد الاقتراب منها يعتبر خطا أحمر.
وقال عبدالحق المريني، مؤرخ المملكة والناطق الرسمي باسم القصر الملكي، إن الملك محمد السادس يجسّد تطلعات الشعب وطموحاته في التنمية والنماء، وفي ربط الماضي الحافل بالحاضر المجيد، وفي الحفاظ على الوحدة الترابية والوطنية وفي تقوية الروابط، وتمتين الأواصر بين كافة المواطنين.
كما شدد على أن العاهل المغربي حريص على توطّد أركان الدولة المغربية، وعلى فتح آفاق جديدة للمغاربة للتمتع بكافة الحقوق المخوّلة لهم، ولمحو أسباب التخلف بكل أنواعه وأشكاله، والسير على نهج التجديد ومسايرة تطور العصر ونهضته على أرض المغرب.
مكسب الوحدة
شدد الملك محمد السادس في خطابه على أن “البيعة التي تجسد ذلك التلاحم بين الملك والشعب المغربي بمثابة العهد والحصن المنيع الذي يحمي المغرب من مناورات الأعداء ومن مختلف التهديدات. كما مكننا من تجاوز الصعاب، ومن تحقيق العديد من المكاسب والمنجزات، التي نعتز بها، في ظل الوحدة والأمن والاستقرار”. وأضاف أن “الوطنية الحق تعزز الوحدة والتضامن، وخاصة في المراحل الصعبة، وأن المغاربة الأحرار لا تؤثر فيهم تقلبات الظروف رغم قساوتها أحيانا بل تزيدهم إيمانا على إيمانهم، وتقوي عزمهم على مواجهة الصعاب، ورفع التحديات”.
وقال الملك المغربي “إني واثق أنهم لن يسمحوا لدعاة السلبية والعدمية، وبائعي الأوهام، باستغلال بعض الاختلالات، للتطاول على أمن المغرب واستقراره، أو لتبخيس مكاسبه ومنجزاته، لأنهم يدركون أن الخاسر الأكبر، من إشاعة الفوضى والفتنة، هو الوطن والمواطن، على حد سواء”.
وأكدت ابتسام عزاوي، البرلمانية وعضو في لجنة الخارجية والدفاع الوطني والشؤون الإسلامية والمغاربة المقيمين بالخارج، أن إلقاء خطاب العرش من مدينة الحسيمة له دلالات خصوصا عندما نستحضر عددا من الاحتجاجات التي كانت لها أسباب اجتماعية واقتصادية وذات مطالب مشروعة بتوفير ظروف ملائمة لشباب المنطقة لإيجاد فرص الشغل والتعليم والصحة وظروف عيش كريمة تضمن الكرامة والعدالة الاجتماعية.
دعوة ملكية جديدة للأحزب السياسية لاستقطاب نخب جديدة، وتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي لأن أبناء اليوم هم الذين يعرفون المشاكل والمتطلبات الراهنة
واعتبرت البرلمانية المغربية، أن خطاب العرش الملكي هو خطاب البرنامج الذي حدد أولويات الاشتغال ضمن الأجندة الوطنية بمختلف الفعاليات والمتدخلين من حكومة وجهات وبرلمان والأطراف الأخرى، مضيفة بأنه كان هناك مقترحات برغماتية واضحة مرقمة تلامس مواضيع دقيقة وهو ما لوحظ في خطابات الملك الأخيرة ببصمة برغماتية وعملية وقوية جدا.
من جهته، أكد تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن اختيار مدينة الحسيمة لإلقاء خطاب العرش حمل رمزية قوية في ما يرتبط بمحتوى الخطاب أو الظرفية التي القي فيها، موضحا أن هناك جوا متوترا كانت تعيشه البلاد يتعلق بالأحكام القضائية التي كانت قاسية ضد الذين مثلوا الحراك في مدينة الحسيمة بالخصوص، علاوة على الاشمئزاز من تدهور الأوضاع الاجتماعية على عدة مستويات ولهذا يعتقد الحسيني أن الخطاب جاء بالضبط في إطار رمزية الحسيمة متمحورا حول الإصلاح الاجتماعي بالأساس.
وكان الملك محمّد السادس قد شدد على مواصلة العمل سويا، لتجاوز المعوقات الظرفية والموضوعية، وتوفير الظروف الملائمة لمواصلة تنفيذ البرامج والمشاريع التنموية، وخلق فرص الشغل، وضمان العيش الكريم، معتبرا أن تحقيق المنجزات، وتصحيح الاختلالات، ومعالجة أي مشكل اقتصادي أو اجتماعي، يقتضي العمل الجماعي، والتخطيط والتنسيق بين مختلف المؤسسات والفاعلين، وخاصة بين أعضاء الحكومة، والأحزاب المكوّنة لها، لأن قضايا المواطن لا تقبل التأجيل ولا الانتظار.
كما ركّز الملك محمد السادس،على الشأن الاجتماعي والتنموي، موضحا أنه رغم أن الانجازات التي تمت في العقدين الأخيرين تبعث على الارتياح والاعتزاز إلا أن “حجم الخصاص الاجتماعي، وسبل تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، من أهم الأسباب التي دفعتنا للدعوة، في خطاب افتتاح البرلمان، إلى تجديد النموذج التنموي الوطني”.
وشدّد العاهل المغربي على وجوب التنسيق بين جميع المتدخلين في تنفيذ البرامج الاجتماعية واستهداف الفئات المستحقة، قائلا “ليس من المنطق أن نجد أكثر من مئة برنامج للدعم والحماية الاجتماعية من مختلف الأحجام، وترصد لها عشرات المليارات من الدراهم، مشتتة بين العديد من القطاعات الوزارية، والمتدخلين العموميين”.
استأثر خطاب العرش لهذه السنة بالمغرب ومكان إلقائه باهتمام المتابعين وغالبية المواطنين لارتباطه بما تحمله الظرفية الداخلية من خصوصية على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، خاصة حين استهل العاهل المغربي الملك محمد السادس خطاب الذكرى الـ19 لعيد العرش، من مدينة الحسيمة شمال المغرب، بحديثه عن الوحدة والتضامن وما يمثلانه من رابطة قوية للمغاربة قاطبة ضد الخصوم.
كما أشاد الخطاب الملكي بالمبادرة الجديدة لإحداث السجل الاجتماعي الموحد، إذ قال الملك إنها بداية واعدة لتحسين مردودية البرامج الاجتماعية، تدريجيا وعلى المدى القريب والمتوسط. وهو نظام وطني لتسجيل الأسر، قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي، على أن يتم تحديد تلك التي تستحق ذلك فعلا، عبر اعتماد معايير دقيقة وموضوعية، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة. وأضاف أن الأمر يتعلق بمشروع اجتماعي استراتيجي وطموح، يهم فئات واسعة من المغاربة، فهو أكبر من أن يعكس مجرد برنامج حكومي لولاية واحدة، أو رؤية قطاع وزاري، أو فاعل حزبي أو سياسي.
وأكدت عزاوي، أن الملك أعطى آجالا لتنفيذ البرامج المقترحة مثل إخراج ميثاق اللاّ تمركز في أكتوبر المقبل وأن هناك وضوحا وتحديد الأولويات والرهانات الحقيقية التي من المفروض أن نتجنّد لها جميعا وننهض للاشتغال عليها، مشيرة إلى أن الخطاب رفع أيضا سقف الرهانات ولا بد لمختلف الفرقاء أن يذهبوا في ذات الطريق لأجل تحقيق التنمية والأهداف المرادة.
كما اعتبر تاج الدين الحسيني، أن الإصلاح الذي أكد العاهل المغربي أنه سيطال التعليم ومطالب الأساسية للأسر المغربية التي تتمثل في مشاكل النقل والمطاعم المدرسية ومواكبة الدراسة من طرف الأبناء وغيرها، كذلك بالنسبة لقطاع الصحة هو عنصر أساسي في تدهور الأوضاع الاجتماعية، وبالتالي وضع مخططات استعجالية بهذا الخصوص لها أهميتها القصوى.
ولترتيب جدول أعمال مضبوط بالوقت لتنزيل ما جاء في خطاب العرش، ترأس العاهل المغربي بعد إلقائه الخطاب اجتماعا بحضور كل من رئيس الحكومة والوزراء المعنيين وتدارس معهم أهم القضايا، التي تطرق لها الخطاب الملكي.
وتعلقت القضايا بوضعية منظومة الدعم والحماية الاجتماعية وضرورة إعادة هيكلتها الشاملة، وتسريع تنزيل الإطار المتعلق بالاستثمار ومواكبة المقاولات، لا سيما من أجل خلق مزيد من فرص الشغل، وكذلك خطة العمل 2025 في مجال الماء ودعم التمدرس، وإطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتصحيح اختلالات نظام التغطية الصحية “RAMED”.
ودعا الملك محمد السادس الوزراء بضرورة التنسيق والتضامن الكامل في العمل بين مختلف الفاعلين المعنيين، واعتماد مقاربة تشاركية، والتركيز على تحقيق الأهداف. لأن “المواطنين ينتظرون العمل الجاد والنتائج الملموسة”.
العناية بالاستثمار
قال رضا الفلاح أستاذ العلاقات الدولية ، إن الخطاب الملكي لهذه السنة ركز على التمييز بين الإصلاحات والمبادرات التي تتطلب نفسا طويلا من جهة وأصبحت ملحّة اليوم وهي النموذج التنموي الجديد، المتمثل في إصلاح الأحزاب ودعم الاستثمار والمخطط الوطني للماء من أجل ضمان الأمن المائي، ومن جهة ثانية المبادرات والتدابير المرحلية المستعجلة والتي تهم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين.
وأشار إلى أن العاهل المغربي دعا إلى اتخاذ إجراءات عملية في ما يخص مثلا دعم التمدرس وبرنامج تيسير عن طريق السجل الاجتماعي الموحد أو في ما يتعلق بإصلاح الاستثمار عبر تجميع اللجان المتدخلة في لجنة واحدة، ووضع سقف أجل شهر واحد للرد على الطلبات.
من جهته قال تاج الدين الحسيني، إن الاستثمار يعتبر رافعة للتنمية وتوفير فرص الشغل بالنسبة للشباب دون استثمار، مضيفا أنه لاحظ أن الملك وضع في الخطاب نقاط مركزية في ما يتعلق بإصلاح شبابيك الاستثمار والتوجه نحو الشباك الواحد وإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار التي تبين أنه رغم النصوص القانونية ظلت تعاني من رداءة الخدمات والتأخر في إنجازها.
قال الحسيني، إن هناك اقتراحا مهما متعلقا بالمستثمر الذي أصبح لدى تقديم ملفه ليس مجبرا على الإدلاء بكل الوثائق، إذ يصبح على مكتب الاستثمار أن يطلب كل الوثائق مستفيدا من التطور التكنولوجي في قطاع المعلومات.
دعوات إلى تجدد الأحزاب
دعا الملك المغربي محمد السادس في خطابه الأحزاب السياسية لاستقطاب نخب جديدة، وتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي، لأنه وفق رؤيته فان أبناء اليوم هم الذين يعرفون المشاكل والمتطلبات الراهنة، مشددا على أن “قضايا المواطن لا تقبل التأجيل ولا الانتظار، لأنها لا ترتبط بفترة دون غيرها. وألح بالقول إن الهيئات السياسية الجادة، هي التي تقف إلى جانب المواطنين، في السرّاء والضرّاء”.
وحسب تاج الدين الحسيني، فانه ينبغي على الأحزاب السياسية التي يجب أن تستعيد مكانتها أن تلعب دورها بعدما همشت ولم تعد تلعب دورها الدستوري الأساسي في تأطير المواطنين .
من جهته، أكد رضا الفلاح أن الخطاب يعطي رسالة قوية للأحزاب بوجوب إطلاق مشروع إصلاحي طويل النفس لأنها وصلت إلى عنق الزجاجة ويجب أن تجدّد نخبها وآليات اشتغالها عبر وضع برامج للتعبئة والتواصل مع المواطنين.كما أكد على أن الملك ركّز على الدعوة إلى الحوار الاجتماعي الذي يكتسي أهمية بوصفه ضروريا ومستعجلا لاستعادة الثقة بين الحكومة والنقابات وبناء أرضية مشتركة للتحاور بين الفرقاء الاجتماعيين.
وقالت ابتسام عزاوي، “يجب تجويد طريقة العمل وتجديد آليات الخطاب والتواصل وطريقة الاشتغال بما يوافق طموح المغاربة”، مضيفة أن المغرب يتجدد ومن الضروري أن تتجدد هذه الأحزاب والنقابات وذلك للقيام بأدوارها في تأطير الحركات الاجتماعية.
وتأسّف تاج الدين الحسيني، لما يعيشه المغرب من قطيعة واضحة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني وذلك ظهر في التظاهرات الشعبية مؤكّدا أن الأحزاب السياسية لم تعد مؤطرة.
وأشار الملك محمد السادس إلى أن هذه المعضلة تتطلب من الأحزاب أن تعود مجددا إلى ممارسة دورها بتجديد نخبها واستبعاد الشعبوية وتطبيق الديمقراطية الداخلية.