ميثاق مراكش للهجرة يقطع مع أنانية دول المقصد
أوروبا كلها اليوم في المفترق، بدءا من ألمانيا التي يمكن أن تلخص بمفردها حجم الارتباك الذي بدأ يظلل السياسة الخارجية ويعيق التعامل مع ملف الهجرة.
مرة أخرى تفضل المجر غمس رأسها في الرمل بدل الاصطفاف مع باقي دول التكتل الأوروبي لمواجهة مصير مشترك لإدارة أزمة الهجرة بما تمليه المعايير التي ضبطها الاتحاد وجعلها منذ عقود طويلة بمثابة خطوط حمراء.
لكن تلك الخطوط لم تعد بحكم الأمر الواقع تؤخذ على محمل الجد من قبل الحكومات اليمينية الصاعدة داخل التكتل وفي مقدمتها المجر. فلقد رفضت الحكومة اليمينية في بودابست بشكل مبدئي أي تفاوض بشأن الميثاق الدولي للهجرة الذي ترعاه الأمم المتحدة والذي ينتظر أن يتم توقيعه في نهاية العام الجاري.
وفي الواقع لا يختلف هذا الموقف مع المزاج العام والسياسة الرسمية للدولة المجرية المعادية للهجرة والمهاجرين في ظل حكم رئيس الوزراء اليميني فيكتور أوربان منذ أن نأت بنفسها عن الهجرات الجماعية عام 2015، مع ذلك فإن المفارقة هي أن تستمر الدولة العضو في التكتل الأوروبي بالتواري خلف المعايير الأوروبية المغشوشة.
وربما ثمة ما يبرر هذا التساهل مع السياسات اليمينية المتشددة إذ أن المجر ليست وحدها على ما يبدو في معمعة، أوروبا كلها اليوم في المفترق، بدءا من ألمانيا التي يمكن أن تلخص بمفردها حجم الارتباك الذي بدأ يظلل السياسة الخارجية ويعيق التعامل مع ملف الهجرة.
فلقد كانت مزحة سخيفة حينما عمد وزير الداخلية هورست زيهوفر إلى الاحتفال علنا في أحد المؤتمرات الصحافية ببلوغه سن التاسعة والستين، لمجرد أن الرقم يتوافق مع إجمالي عدد المهاجرين الذين نجحت وزارته في ترحيلهم منذ توليه المنصب.
لكن الفضيحة لم تتأخر في الإعلان عن نفسها من فوق رأس زيهوفر والجهاز الحكومي مع حادثة ترحيل الحارس الشخصي لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، إلى موطنه الأصلي تونس، إذ ثبت أن عملية الترحيل حدثت عبر القفز على الإجراءات القانونية ودون ترخيص قضائي مسبق، وهي سابقة وضعت مفهوم “دولة القانون” في ألمانيا في وضع مخز لا تحسد عليه دوليا.
والوجه الآخر من الفضيحة أن الأمر لم يقتصر على مجرد إخلال بالقانون وإنما أيضا هناك تضارب صارخ بدأ يسري في باقي أوروبا، بين الاعتراف بغياب الضمانات الفعلية والحقيقية مثل المحاكمات العادلة وظروف اعتقال تحترم حقوق الإنسان لمن يجري ترحيلهم نحو أوطانهم بشبهات إجرامية، وبين الاتجاه نحو تبني قرار تصنيف دول جنوب المتوسط وغيرها من بلدان المنشأ كجهات آمنة، ما يمكّن من تسريع إجراءات الترحيل لمن ترفض طلبات لجوئهم آليا من هذه الدول.
وفي الحقيقة يناقض الاتحاد الأوروبي نفسه عندما ينخرط في الدفاع عن ظاهرة الهجرة الدولية بينما تتبنى حكوماته سياسات أكثر تطرفا مما تتبناه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الضفة الأخرى من الأطلسي. ويصبح الأمر أكثر نفاقا للأوروبيين في وقت تستعدّ فيه الأمم المتحدة لتبني اتفاق دولي للهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة في ديسمبر القادم بمدينة مراكش.
يسعى الميثاق الدولي للهجرة الذي أقرته المنظمة الأممية قبل أن يدخل حيز التنفيذ، إلى اعتبار الهجرة أحدَ حقوق الإنسان، ومن ثم إرساء إطار عالمي لتنظيم الهجرة. لكن مثل هذه الخطوة قد لا تعدو أن تكون سوى قفز في الهواء في ظل الخلافات الدولية العميقة بشأن التعريفات المرتبطة بالهجرة ذاتها. مثلا تنطلق الأمم المتحدة في تعميم الاتفاق غير الملزم قانونا، من قناعتها بأن الهجرة ليست جريمة في الأصل وأن هذه الظاهرة تظل محركا مهما ورئيسيا للنمو في العالم.
والأرقام وحدها يمكن أن تختصر مدى إسهام المهاجرين في دفع النمو الاقتصادي عالميا ناهيك وأن هناك ما يربو عن 250 مليون مهاجر حول العالم يشكلون قرابة 3 بالمئة من العدد الإجمالي لسكان الأرض.
لكن الوجه المظلم لهذه الطفرة المهمة للهجرة أن ما لا يقل عن 60 ألفا من المهاجرين قد لقوا مصرعهم منذ بداية الألفية سواء في المعابر الصحراوية أو في البحار أو على أيدي مسلحين وعصابات تهريب البشر.
بالنسبة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فإن أفضل سياسة ممكنة للتصدي لأنشطة التهريب والاتجار بالبشر هي زيادة فرص الهجرة القانونية، والتعامل مع الهجرة كظاهرة دولية إيجابية على اعتبار أن الكثير من الدول المتطورة، والمتقدمة في السن، لا تزال بحاجة إلى المهاجرين لسد الفجوات المهمة في أسواق العمل وتعديل الخلل الديمغرافي.
لكن هذه المقاربة تصطدم بتصنيفات “الجهات الآمنة” التي تفرضها دول الهجرة مثل ألمانيا في سعيها للتضييق على حرية التنقل، وهي تصنيفات ضيقة ولا تأخذ في الغالب بعين الاعتبار جميع مسوغات تدفق المهاجرين، مثل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وحتى المناخية لدول المنشأ.
بحسب أرقام الأمم المتحدة أجبرت الحروب والصراعات وانتهاكات حقوق الإنسان 68 مليون شخص في العالم على الهجرة من أوطانهم، وهو أعلى رقم منذ الحرب العالمية الثانية، لكن ثمة عوامل أخرى أيضا مهمة وذات تأثير كبير في زيادة زخم الهجرة، فالجوع وغياب فرص العمل والافتقاد إلى أنظمة تعليم وصحة وخدمات وتنشئة فعالة قد تمثل عوامل أكثر خطورة على حياة المهاجرين من الحروب العرضية.
في تقدير غوتريش فإن التغير المناخي الحاد وغيره من العوامل بما في ذلك التطلعات البشرية البسيطة لتأمين حياة أفضل، تدفع جميعها الناس إلى السعي بشكل دائم لإيجاد الفرص بعيدا عن ديارهم. ويحتم هذا بنظره، تنظيم الهجرة بشكل أفضل عبر تعاون دولي فعال بين دول المنشأ والعبور والمقصد، كيلا تترك تحركات البشر للمهربين.
ولكن الأهم كذلك من إرساء مقاربة دولية أكثر تسامحا مع الهجرة والمهاجرين، فإن الميثاق الدولي للهجرة في مراكش قد يمهد ولو بشكل رمزي للقطع مع أنانية دول المقصد ويدفع نحو تقاسم الأعباء على نحو أكثر عدالة دوليا، بالنظر إلى أن الدول النامية ما زالت تستضيف الغالبية العظمى من اللاجئين ما يجعل مصير هؤلاء وتطلعاتهم يحوم حول حلقة مفرغة.