الإسلاميون والملكية في المغرب واللعب المزدوج
ما حصل الأسبوع الماضي داخل حزب العدالة والتنمية أعاد الحزب إلى نقطة البداية في ما يتعلق بمواقفه من الثوابت السياسية في المغرب، وعلى رأسها المؤسسة الملكية التي تشكلُ عنصر إجماع بين مختلف التيارات السياسية في البلاد.
بينما اطمأن الكثيرون في المغرب خلال العقدين الماضيين إلى اندماج حزب العدالة والتنمية في الحياة السياسية، منذ عام 1997 حين وصلت أول دفعة منه إلى البرلمان، إلى 2011 حين تسلم الحزب قيادة الحكومة بعد الانتخابات المبكرة التي أجريت ذلك العام بعد التعديل الدستوري، لا تزال الشكوك تساور البعض حيال طبيعة هذا الاندماج في المشهد السياسي، وما إن كان يخفي وراءه استعدادا مستمرا للمناورة وممارسة أشكال مختلفة من الابتزاز السياسي للدولة.
ومنذ أن انخرط حزب العدالة والتنمية في الحياة السياسية في البلاد، وشارك في الانتخابات في تسعينات القرن الماضي، رفع شعار “الإصلاح من الداخل”؛ وكان ذلك الشعار موجها إلى جماعة العدل والإحسان المحظورة، التي اعتبرت مشاركة الحزب في العمل السياسي “تفريطا” في إرث الحركة الإسلامية.
ذلك أن الجماعة ظلت دائما تنادي بعدم دخول المؤسسات السياسية في البلاد، التي تعتبرها غير ذات شرعية شعبية، ولذلك بقيت تراهن على الشارع من أجل التغيير من خارج المؤسسات القائمة، وهو ما دفع حزب العدالة والتنمية إلى رفع الشعار المشار إليه ردا على اختيار الجماعة الذي يركز على “التغيير من الخارج”.
بيد أن أحدا لم يطرح في ذلك الوقت احتمال حصول تحوّل في مواقف بعض التيارات داخل الحزب، ممن لم تحسم اختياراتها بشكل دقيق وفق التصورات التي دافع عنها الحزب في العقدين الماضيين، وإمكانية استغلال الظروف السياسية المتغيرة من أجل تحويل شعار “الإصلاح من الداخل” إلى استراتيجية جديدة تقوم على مبدأ “الانقلاب من الداخل”.
ولكن ما حصل خلال الأسبوع الماضي داخل حزب العدالة والتنمية أعاد الحزب إلى نقطة البداية في ما يتعلق بمواقفه إزاء الثوابت السياسية في المملكة، وعلى رأسها المؤسسة الملكية التي تشكّلُ عنصر إجماع بين مختلف التنظيمات والتيارات السياسية في البلاد، مهما اختلفت توجهاتها الأيديولوجية، عدا جماعة العدل والإحسان التي لا يزال يكتنف موقفها من المؤسسة الملكية الكثير من الغموض والالتباس، إذ لا تعلن عدم الاعتراف بها، لكنها في الوقت نفسه لا تعلن موقفا إيجابيا منها.
فخلال “الحوار الداخلي” الذي فتحه الحزب بين أعضائه، في محاولة لرأب الصدع بعد المؤتمر الأخير الذي شهد عزل بن كيران وتولية سعدالدين العثماني، رئيس الحكومة الحالية، أُثيرَ من جديد موضوع الموقف من المؤسسة الملكية في جلسة مغلقة من طرف أحد أعضاء الأمانة العامة للحزب، وهو عبدالعالي حامي الدين، الذي قال في مداخلة له إن المؤسسة الملكية عائق أمام التطور والتنمية والتقدم، وذهب أبعد من ذلك مطالبا المؤسسة الملكية بالتفاوض مع حزب العدالة والتنمية، بوصفه، حسب ما جاء على لسانه، يتوفر على المشروعية الشعبية والانتخابية، كونه الحزب الأول في الانتخابات الأخيرة للعام الماضي وقائد الحكومة الحالية.
ولم يكن الشخص المذكور يعتقد بأن كلامه يمكن أن يتم تسريبه خارج الجلسة المغلقة، ولكن الذي حدث أن بعض أعضاء الحزب الذين كانوا حاضرين سجّل المداخلة في شريط مصور وقام بتسريبها إلى الصحافة، الأمر الذي فجّر جدلا ساخنا في الوسط السياسي المغربي وداخل الحزب نفسه. وقد أصيبت قيادة الحزب بحرج شديد، ما دفع العثماني، أمين عام الحزب، إلى القول إن من يعارضون مواقف الحزب من المؤسسة الملكية والثوابت الوطنية عليهم بالمغادرة.
ولكن تصريحات العثماني لن تخفي فشل الحزب في مهمة تغيير ثقافته السياسية التقليدية النابعة من الجذور التي تعود إلى الإسلام السياسي. فالحزب لا يزال حتى اليوم يدين بالولاء القوي إلى حركة التوحيد والإصلاح، وهي الحركة الأم التي أنجبت الذين ينشطون داخل الحزب حاليا، وأشرفت على تنشئتهم السياسية طوال أكثر من ثلاثة عقود.
وتعد الحركة ذراعا من أذرع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وهي تضم في صفوفها أحمد الريسوني نائب الأمين العام للاتحاد العام للعلماء المسلمين الذي يرأسه يوسف القرضاوي، ومعروف عن الاتحاد أنه واجهة من واجهات التيار الإخواني العالمي. وتكمن أزمة الحزب الأيديولوجية في عدم تخلصه من التبعية إلى الحركة. فبالرغم من تصريحات مسؤوليه بأن الحزب ليس جناحا للحركة، إلا أن الوقائع تكذب تلك التصريحات.
فقد تبين من خلال عدد كبير من المحطات أن الحركة تتمتع بنفوذ كبير على الحزب تمارسه من خلف حجاب، وتلعب الدور الأساسي في تعيين مسؤوليه وقادته. كما أن الحركة انخرطت في معركة الولاية الثالثة لبن كيران، قبيل المؤتمر الأخير في العام الماضي، وأسقطت الخيار الذي كان بن كيران وأتباعه يراهنون عليه، وساندت العثماني للوصول إلى قيادة الحزب، بل إن الريسوني نفسه خرج بتصريح للصحافة قبل شهور بأنه كان وراء إفشال خيار الولاية الثالثة، وهي شهادة منه بالتأثير الذي تلعبه الحركة، ويقوم به هو شخصيا على الحزب. وفي شهر رمضان الماضي أعلن رئيس الحركة، عبدالرحيم الشيخي، أن بن كيران من حقه أن يرشح نفسه لتولي قيادة الحركة في مؤتمرها المقبل، طالما أنه عضو كامل العضوية فيها.
المشكلة الأكبر ترتبط بما يسميه بعض قادة الحزب بـ”المراجعات”. فالكثير من قادة الصف الأول في الحزب، ممن عاشوا تجربة الانتقال من الحركة إلى الحزب وأشرفوا عليها في بداية التسعينات، يعلنون باستمرار بأنهم أجروا مراجعات للأفكار التي كانوا يحملونها عندما كانوا في حركة الشبيبة الإسلامية، قبل أن ينفصلوا عنها عام 1981 ويؤسسوا “الجماعة الإسلامية”، التي تحولت إلى “حركة الإصلاح والتجديد” عام 1992 ثم “حركة التوحيد والإصلاح” عام 1996، ويقطعوا مع المواقف المتطرفة إزاء المؤسسة الملكية، ولكن استمرار هذه الأفكار أو عودتها من جديد داخل الحزب يكشف فشل هذا الأخير في المراجعات المعلن عنها، وعدم نجاحه في إقناع الجيل الجديد بتلك المراجعات، إن كانت هناك مراجعات حقيقية.
ما حصل في الأيام الأخيرة من شأنه أن يعيد الجدل حول علاقة الحزب بالمؤسسات وبالمؤسسة الملكية بوجه خاص. فقد أساءت تلك التصريحات إليه بشكل كبير وأسهمت في كشف التناقضات التي تعتمل بداخله، بل اتهم الكثيرون الحزب بالتقية واتخاذ المشاركة السياسية مطية إلى التغلغل في المؤسسات لكي يستغل ذلك في إعلان مواقفه الراديكالية.