صفقة القرن الحقيقية
على أبو مازن السعي لإنهاء الانقسام وانتخاب قيادة جديدة تستطيع بلورة إجماع وطني
Jul 13, 2018
رجل العقارات، الذي يتولى منصب رئيس الولايات المتحدة، أدخل إلى الوعي السياسي الشرق أوسطي بشكل عام، والإسرائيلي بشكل خاص، اصطلاح «صفقة القرن»، وقد تبنيناه جميعنا، بمن فينا الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي سارع إلى استخدامه في لقاءاته الأولى مع الرئيس الأمريكي في واشنطن وفي بيت لحم. وحاول عباس في حينه إرضاء دونالد ترامب قبل أن يفهم بأنه لن يخرج منه أي شيء، فقطع الاتصال.
يأتي هذا الاصطلاح، بالطبع، مثلما يشهد اسمه، لوصف خطوة دراماتيكية من تسوية سلمية، تضع حدًا للنزاع الدموي بين إسرائيل والفلسطينيين، تؤدي إلى سلام شامل في الشرق الأوسط وتدخل إلى كتب التاريخ. غير أن كل ذي عقل يفهم بأن ليس هذا ما قصده ترامب حقًا، فما بالك حكومة نتنياهو؟ الهدف الحقيقي هو خصي القيادة الفلسطينية في ظل عرض صفقة هي بالفعل مقاولة في جوهرها، يحصل الفلسطينيون حيثما يتواجدون على إمكانية العمل والارتزاق والعيش في ظروف معقولة، ويهجرون الحلم الوطني. هم لن ينالوا دولة، ولا عاصمة في القدس ولا حق العودة.
«صفقة القرن» في الوعي الفلسطيني تعني تصفية الحلم الوطني، ومرادفًا لإملاء إسرائيلي ـ إمريكي، يتم إنزاله من فوق على القيادة الفلسطينية، في ظل محاولة لربط العالم العربي بالخطوة.
إذا كان ثمة حقًا خطة يمكنها أن تنال لقب «صفقة القرن» فإنها موضوعة على الطاولة منذ (18) سنة، منذ العام 2002م، في ذروة الانتفاضة الثانية، حين أقرت دول الجامعة العربية مبادرة السلام السعودية. فالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان محاصرًا في حينه في المقاطعة في رام الله، ولكن في وضع العزلة الذي كان يعيشه ما كان لأي زعيم عربي أن يتجرأ على أن يتحدى المبادئ الوطنية الفلسطينية، كما تشهد المبادرة.
إن ترامب وعصبة مستشاريه لا يمكنهم أن يأتوا فجأة ليعيدوا اختراع الدولاب، ولا يمكنهم أن يملوا فجأة سيناريو جديدا، وخاصة حين يدور الحديث عن أغرار سياسيين مثل مبعوثي ترامب: جارد كوشنير، وجيسون غرينبلت وديفيد فريدمان. ليس هؤلاء هم الأشخاص القادرون على أن يقودوا خطوة صعبة بهذا القدر ومحملة بالمصائر، لم ينجح حتى سياسيون مجربون أكثر منهم بكثير قبلهم أن يحققوها.
ظاهرًا، ليس للقيادة الفلسطينية ما يدعوها إلى القلق، فالشعب الفلسطيني سبق أن تصدى لأوضاع أصعب وأكثر وحشية، فبعد ضربة حرب 1967م التي قضت على حلم تحرير أرض فلسطين التاريخية، جاءت أحداث «أيلول الأسود» (1970) في الأردن، التي كان هدفها عمليًا تصفية وجود الفصائل الفلسطينية في الأردن. يكفي العودة إلى أرشيف المقابلات مع ياسر عرفات لنراه ونسمعه يعلن بأن الخطة التي نالت تأييد السي.اي.ايه، كانت لتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية.
اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر في 1979م كان ضربة أخرى للفلسطينيين، فالدولة العربية الأكبر والأقوى خرجت من دائرة المواجهة ـ وعقب ذلك في واقع الأمر قضت بأنه لن تكون بعد اليوم حرب إقليمية، لأنه لن تتجرأ أي دولة عربية على مهاجمة إسرائيل بلا مصر ـ وتوصلت إلى اتفاق مع إسرائيل، ترك الفلسطينيين خارجه، بلا دولة ومع ما بدا كاحتمال أصغر لتحقيق أمانيهم الوطنية.
في سنة 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان بهدف تصفية تواجد م.ت.ف في الدولة من خلال الفصائل المسيحية، وهذه الخطوة عزلت سوريا ومست أكثر بفرص الحلم الوطني الفلسطيني.
في كل هذه المفترقات السياسية، دفع الفلسطينيون الثمن بكثير من الدم، ولكن الحلم لم ينته والحركة الوطنية حية ترزق.
المرة تلو الأخرى فشلت المحاولات للإملاء على الفلسطينيين اتفاقات لا تتضمن استجابة دنيا لتطلعاتهم الوطنية، وعلى رأسها دولة في حدود 1967م.
يبدو أن الإسرائيليين والأمريكيين كذلك باتوا يفهمون، رغم محاولاتهم المتكررة لتجاهل ذلك، بأن الفلسطينيين لن يتنازلوا في هذا الشأن.
لماذا، مع ذلك، نجد الفلسطينيين قلقين؟ إن السبب الأساس هو أزمة الزعامة واستمرار الانقسام الداخلي، الذي يمنع كل إمكانية لبلورة استراتيجية فلسطينية موحدة. وعليه، فإذا كان أبو مازن، ابن جيل المؤسسين، الذي يعرف جيدًا كل الصفقات وكل الألاعيب، يتطلع لأن يخلف شيئًا ما للجيل التالي، فإن عليه أن يحرص ليس لإرثه هو بل لشعبه، وأن يعمل بكل قوته كي يخلق خطوة فلسطينية داخلية تؤدي إلى إنهاء الانقسام وانتخاب قيادة جديدة، تسعى إلى بلورة إجماع وطني.
هكذا فقط سيكون ممكنًا دفن خطة ترامب، ثم عرض خيارين فقط على الأسرة الدولية: دولة فلسطينية في حدود 1967م إلى جانب دولة إسرائيل، أو دولة واحدة لكل مواطنيها. هذه ستكون صفقة القرن