حزب الاستقلال المغربي وأحداث الريف

مبادرة حزب الاستقلال بإنشاء لجنة للتحقيق في أحداث منطقة الريف في خمسينات القرن الماضي وجمع المعطيات التاريخية حولها، سوف تثير جدلا واسعا في المغرب.
الجمعة 2018/07/13
مسؤولية من ؟
بينما كانت الأحكام التي صدرت عن القضاء المغربي في حق عدد من الشبان المتابَعين في احتجاجات منطقة الريف، التي حصلت العام الماضي، تثير الجدل في البلاد بين من يطالب بتدخل ملكي للعفو عن المحكومين، ومن يسعى إلى إصدار عفو عام عن البرلمان، صنع حزب الاستقلال المعارض الحدث، عبر الزيارة التي قام بها أمينه العام الجديد، نزار بركة وبعض المسؤولين في المكتب السياسي إلى مدينة الحسيمة، كبرى مدن المنطقة والتي انطلقت منها الاحتجاجات في شهر أبريل من العام الماضي.

وتوجد بين حزب الاستقلال وبين منطقة الريف المغربية حالة من سوء التفاهم استمرت منذ نصف قرن، تعود إلى سنتي 1958-1959، عندما اندلعت اضطرابات في المنطقة على خلفية ظهور نزعات لدى البعض للانفصال عن الدولة المركزية وإعلان ما سمّي “الجمهورية الريفية الثانية”، تذكيرا بالجمهورية الأولى التي ينسب الإعلان عنها إلى محمد بن عبدالكريم الخطابي في العشرينات من القرن الماضي، إبان الاحتلال الإسباني للمنطقة الريفية. وقد تدخل الجيش عقب تلك الاضطرابات، وحصلت مواجهات خلّفت العديد من القتلى، واتهم حزب الاستقلال بالوقوف وراء ذلك، كونه كان على رأس الحكومة آنذاك من جانب، كما كان الحزب الوحيد النافذ في البلاد من جانب آخر.

وقد ظل الحزب معزولا في المنطقة طيلة نحو ثلاثة عقود، لا يتوفر على أي تمثيلية حزبية له بها، بسبب بقاء ذكرى تلك الأحداث مفتوحة لدى السكان، ووجود ثقافة العداء السياسي للحزب وسط النخبة المحلية والشباب الريفي. ولكن في عام 1999، بعد مجيء الملك محمد السادس إلى الحكم، تغيّرت الكثير من الأمور، بعد أن قرر الملك إحداث مصالحة تاريخية مع المنطقة وطي صفحة الماضي بشكل نهائي، وإطلاق مبادرة تحت اسم “الإنصاف والمصالحة” لجبر الضرر وتعويض الضحايا.

وبينما كان الملك الراحل الحسن الثاني قد قاطع المنطقة نهائيا منذ نهاية الخمسينات ولم يقم بأي زيارة لها، كنوع من الغضب وشكل من التأديب، أصبح الملك محمد السادس كثير الزيارة لمدن المنطقة، حيث كثيرا ما يقضي عطلته الصيفية فيها، بل إنه في العام 2004 لدى حصول الزلزال العنيف الذي هز مدينة الحسيمة، ذهب شخصيا إلى المدينة ونصب خيمة وأقام هنالك عدة أيام للإشراف على أعمال الإغاثة بنفسه.

غير أن هذا كان معناه المصالحة السياسية مع الدولة، لكن المصالحة الحزبية بين المنطقة وحزب الاستقلال ظلت معلّقة بسبب تراكم الأحقاد تجاه الحزب. فالعديد من المؤلفات والشهادات التي سجلها أبناء المنطقة ممن عاشوا أحداث الخمسينات يشيرون إلى حزب الاستقلال باعتباره المسؤول الأول، وهو ما جعله دائما في موقف حرج.

لكل ذلك جاءت زيارة نزار بركة والوفد الحزبي المرافق له إلى الحسيمة والناظور، مباشرة في أعقاب نطق المحكمة بالأحكام في حق شباب الحراك الريفي، كمحاولة لإحداث اختراق في جدار الصمت. وقد ركز بركة في لقاءاته مع السكان على أمر أساسي، وهو استعداد الحزب للاعتذار لأبناء المنطقة، في حال ثبتت مسؤولية بعض أعضائه عن أحداث العنف التي حصلت في نهاية الخمسينات، أي بعد عامين من حصول المغرب على الاستقلال.

وقد قال في الحسيمة إن حزبه مستعد “لفتح ورش المصالحة الحزبية مع المنطقة من أجل كشف حقيقة مسؤولية حزب الاستقلال عمّا جرى فعلا، خلال أحداث 1958 و1959 الأليمة، والقيام بالمكاشفة الضرورية مع الذات والنقد الذاتي”. وعقب تلك الجولة الحزبية في المنطقة، قرر الحزب اتخاذ قرار وُصفَ بالجريء، وهو تشكيل لجنة خاصة لجمع المعطيات حول تلك المرحلة وتحديد المسؤوليات التي يمكن للحزب أن يكون متورطا فيها.

بيد أن المسؤوليات عن أحداث تلك المرحلة غير واضحة بما فيه الكفاية. فالمعروف أن حزب الاستقلال في تلك الحقبة كان يتحرك برأسين، الأول يمثله علال الفاسي، والثاني يمثله المهدي بن بركة وعدد من اليساريين الموجودين في الحزب، ولم يحدث الانفصال بين الجناحين إلا في نهاية العام 1959، بعد نهاية أحداث العنف في الريف، عندما خرج عدد من اليساريين يتزعمهم بن بركة وأنشأوا حزبا جديد هو “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”.

ولذلك يظل السؤال هو من المسؤول من التيارين في الحزب عن تلك الأحداث، إذا كانت هناك مسؤولية حزبية حقيقية؟ ولعل هذا السؤال كان واردا لدى نزار بركة – الذي ينتمي إلى الجيل الجديد الذي لم يعش تلك المرحلة- حين قال في الحسيمة إن غرض الحزب هو تصحيح العديد من المغالطات والافتراءات التي تم إلصاقها بحزب الاستقلال، ولعله يقصد بذلك أن التيار اليساري في الحزب هو المسؤول عن إلصاق كل التهم بحزب الاستقلال، الجناح الرئيسي، بعد الانفصال.

وإذا كان هناك من يرمي بالمسؤولية على عاتق حزب الاستقلال، فإن هناك من يشير بالاتهام إلى وزير الدفاع ووزير الداخلية الأسبق محمد أوفقير، الذي كان المسؤول الأول عن الجيش في تلك المرحلة، ولعب دورا في تلك الأحداث بهدف فتح هوة بين القصر والمنطقة الريفية، ربما في محاولة لعزل المؤسسة الملكية كخطوة نحو إسقاطها.

وقد يكون هذا السيناريو الأكثر ورودا، إذا وضعنا في الاعتبار أن أوفقير نفسه هو من دبّر المحاولة الانقلابية ضد الملك الراحل الحسن الثاني عام 1972، لكنه فشل في مخططه. وكان أوفقير عسكريا في خدمة فرنسا خلال احتلالها للمغرب، لكن الملك الراحل احتفظ به بعد الاستقلال ووضعه على رأس الجيش والداخلية، ولم يفطن إلى ذلك إلا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، حين قال في لقاء صحافي آنذاك بأنه ندم على وضع الثقة فيه.

كيفما كان الحال فإن مبادرة حزب الاستقلال بإنشاء لجنة للتحقيق في تلك الأحداث وجمع المعطيات التاريخية حولها سوف تثير جدلا واسعا في المغرب، خصوصا من لدن حزب الأصالة والمعاصرة الذي يعدُّ اليوم الحزب المغربي الأكثر تجذّرا في منطقة الريف، وأكثر الأحزاب الذي يضم أكبر نخبة ريفية. وقد صرّح حكيم بنشماس، الأمين العام للحزب خلفا لإلياس العماري، خلال هذا الأسبوع في مدينة طنجة بأن مسؤولية ما حصل الريف هي مسؤولية جماعية، ولعله بذلك كان يرد بطريقة غير مباشرة على مواقف حزب الاستقلال.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: