في البحث عن “غوانتانامو” أوروبا
دول شمال أفريقيا تطرح على أوروبا مقاربات عميقة تقارب الهجرة كفعل اجتماعي إنساني يروم تحسين الوضعية الاقتصادية، وتبتعد عن المقاربات الوصولية الأردوغانية التي وظفت قضية إنسانية مثل اللجوء والهجرة لابتزاز أوروبا.
لئن أحرز اجتماع القمة الأوروبية الذي عقد نهاية الأسبوع الماضي حول مسألة الهجرة غير الشرعية شيئا حقيقيا، فهو نجاحه في الوصول إلى اتفاق جماعي يحفظ هيبة التكتل الأوروبي ويعطي الانطباع بالتوافق، بغض النظر عن مدى قابلية الحلول المطروحة على التطبيق الفعلي.
خطاب التشكيك ومناخ الريبة كانا طاغيين بشكل كبير على دوائر اجتماعات القمة في بروكسل، والتلاسن الذي حصل بين زعماء القارة بين محوري المكاسرة والمساومة حيال الهجرة غير الشرعية انحدر إلى درك لم تتعود عليه لقاءات النادي الأوروبي.
لذا فإن العنوان الأبرز لاجتماع بروكسل لم يكن، كما روجت له وثيقة الاتفاق، وضع النقاط النهائية على مسألة الهجرة غير الشرعية، ولا انتصار أوروبا في وجه أكبر مشكلة تتهدّدها منذ عقود، كما تغنى بذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وإنما تحقيق الحد الأدنى من التوافق، وإدارة الخلاف الذي أثارته سيطرة التيارات الشعبوية على عدد من العواصم الأوروبية وتمثيلها الوازن في اجتماعات القمة.
اختارت قمة التأزم الأوروبي، في مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سياسة الهروب إلى الأمام عبر اجتراح مقترحات يدرك القادة الأوروبيون صعوبتها وعسرها، ويعرف صانعوها أنها أقرب إلى سياسة “ترحيل المشاكل” عوضا عن مجابهتها ومقاومتها.
ذلك أنّ مبدأ “الجغرافيا الثالثة” المقترحة بين نصوص اتفاق بروكسل، والقائم على فكرة إقامة “منصات عازلة” خارج حدود الاتحاد الأوروبي من أجل تجميع المهاجرين غير الشرعيين والتثبّت في جنسياتهم، قبل استقدام البعض منهم إلى مخيمات لجوء داخل حدود الاتحاد، ليست سوى استدرار لفكرة “غوانتانامو القارة الأميركية” وإسقاطها على البحيرة المتوسطية.
وهي فكرة لا تعبر فقط عن عجز عن تقديم الحلول والمقترحات العملية للقضية، وإنما تدل على عنصرية هجينة قوامها البحث عن جغرافيا بلا سيادة وفضاء دون قانون ومكان بلا إطار تشريعي سواء أكان محليا أم إقليميا أم دوليا، يُسمح لأوروبا من خلاله بتدبير قضايا المهاجرين دون استتباعات اجتماعية أو اقتصادية أو إنسانية.
ولأن فكرة “الجغرافيا الثالثة” بين الضفة الشمالية والجنوبية، تكتنف في طياتها حُمولة السرديات الأوروبية المؤلمة، انطلاقا من مراكز الاحتجاز إبان الحرب العالمية الأولى وصولا إلى الثانية، فإن أوروبا الجديدة تعكف حاليا على الترويج للفكرة في عواصم شمال أفريقيا عسى أن تقبل الأخيرة بمنصات عازلة إما على أرضها وإما ضمن حدودها البحرية.
وقد تكون من المرات القلائل التي تتوافق فيها عواصم شمال أفريقيا على خطاب سياسي رافض لأي مقترحات يستنكف أصحابها عن تحمل تداعياتها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية وتعبر عن فكرة الخلاص من الفائض البشري العالق في المتوسط. فقد كان خطاب الدول الخمس موحدا بأنه لا سبيل لإقامة مخيمات دائمة أو مؤقتة للاجئين غير الشرعيين، وأن التعاون جنوب -شمال المتوسط لا بد أن يكون تعاونا على أسس السيادة والقانون الدولي والمقاربة الشمولية للقضية.
بمعنى أن التصدي لهذا الإشكال لا يكون فقط من خلال المقاربة الأمنية، ناهيك عن المقاربة الانعزالية المتجلية من خلال بيان بروكسل الأخير، وإنما عبر قراءة عميقة لجذور الأزمة والتعامل معها على أنها إشكاليات اجتماعية وتنموية قبل أن تكون إشكاليات قوارب موت داخل البحر.
دول شمال أفريقيا تطرح على أوروبا مقاربات عميقة، تقارب الهجرة كفعل اجتماعي إنساني يروم تحسين الوضعية الاقتصادية، وتبتعد كل البعد عن المقاربات الوصولية الأردوغانية التي وظفت قضية إنسانية مثل اللجوء والهجرة والنزوح لابتزاز أوروبا.
إشكالية أوروبا أنها لم تعد تستمع إلى نفسها، ويبدو أن البعض من الدول المرتبطة بقضية الهجرة تريد حلا فرديا مع دول الجنوب، وفي تقديرنا فإن السياسة الإيطالية الحالية تتنزّل في سياق فك الارتباط الجزئي ببروكسل.
ليس هناك ما يدل على أن أوروبا ستغير من نمط تعاملها مع مسألة الهجرة، سواء في مستوى العقلية الأمنية المطبوعة ببنود مسار برشلونة، أو في سياق نهجها التهجيري الذي يزداد باطراد مع أفكار الانعزال والتقوقع، ولكن الأكيد أن الوضع الحالي لن يستمر وأن بروكسل ستقف أمام واجب اختيار مسلك من المسلكين، إما التعامل مع الهجرة غير الشرعية كإشكال متوسطي وشمال أفريقي سماته الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، وإما القبول بالتآكل ورؤية حجارة المبنى الأوروبي تتساقط لبنة وراء أخرى.