“مواطن عالمي”: تسمية لا يعترف بها الفكر الجهادي
أصحاب الفكر الجهادي يرون أن كلمة “مواطن عالمي”تعني: إما إسلاميا صديقا وإما عدوا علمانيا يحارب الإسلام والمسلمين.
“التعليم من أجل المواطنة العالمية” شعار انتقده كتاب إسلاميون على صفحات التواصل الاجتماعي وحتى بشكل علني وصريح في بعض المنابر الإعلامية المحسوبة على جماعة الإخوان وغيرهم. وبدأ بالظاهر والمؤكد أن كلمة “مواطن عالمي” تسمية لا تروق للذين يقولون بعولمة الإسلام فبدوا يتعاملون مع الكلمة بشكل فيه شيء من الاستهجان.
والحقيقة أن “التعليم من أجل المواطنة العالمية” هو إحدى المبادرات والبرامج التي أطلقتها المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) بقصد تمكين الشابات والشبان من الارتقاء بمستوى إمكاناتهم بوصفهم جهات فاعلة في التغيير الإيجابي من خلال العمل الفريد الشامل لعدة قطاعات. وتسعى اليونسكو لمساعدة البلدان على توفير برامج تعليمية تبني قدرة الشباب على التصدي لرسائل التطرف وتعزيز الشعور الإيجابي بالهوية والانتماء. ويجري الاضطلاع بهذا العمل في إطار مبادرة التعليم من أجل المواطنة العالمية.
ويرمي التعليم من أجل المواطنة العالمية إلى تلقين المتعلمين، أيا كانت أعمارهم، القيم والمعارف والمهارات التي تقوم على احترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنوع والمساواة بين الرجل والمرأة والاستدامة البيئية والتي يعمل على ترسيخها بحيث يضع في متناولهم ما يلزم ليكونوا مواطنين عالميين مسؤولين. ويمنح التعليم من أجل المواطنة العالمية المتعلمين الكفاءات والفرص اللازمة لإنفاذ حقوقهم والوفاء بالتزاماتهم بغية التشجيع على بناء عالم أفضل ومستقبل يضم الجميع.
ويستند التعليم من أجل المواطنة العالمية إلى العديد من المجالات ذات الصلة من قبيل تعليم حقوق الإنسان، والتعليم من أجل السلام، والتعليم من أجل التفاهم الدولي، وهو يتماشى مع أهداف التعليم من أجل التنمية المستدامة.
كل هذه القيم تسعى المنظمة الدولية لترسيخها وتبنيها في برامج معممة على جميع البلدان والأقاليم، خصوصا تلك التي تعاني برامجها التعليمية وثقافتها المجتمعية من شح ينبغي تداركه في الثقافة الحقوقية، وذلك محاصرة لأفكار التعصب والانغلاق.
الجميع يتفق على أن التطرف لا يمكن محاصرته ببرامج تعليمية مهترئة تكرس الانغلاق وتذكي الكراهية كما هو عليه الحال في بلدان وأقاليم كثيرة بالعالمين العربي والإسلامي. لكن مجرد “الاتفاق” هذا لا يكفي لاجتثاث آفة التطرف دون تعميق الإحساس بالانتماء الكوني.
أما هذه “المواطنة الكونية” التي ينشدها ساسة العالم في خطاباتهم، وينظّر لها دعاة السلام والتعايش في كتاباتهم، فلا يمكن أن يُعول عليها في ظل انعدام العدالة الاجتماعية، واستمرار الإحساس بالغبن والدونية أمام الدول الغنية والمجتمعات المرفهة.
يضاف إلى كل هذه العوامل، حاجز يقف بين المواطنة العالمية كمنظومة قيم حقوقية تعزز إنسانية الإنسان، وبين الفرد في المجتمعات العربية والمسلمة، وهو الأيديولوجية التي تسوقها الجماعات الداعية إلى التخندق السياسي، وتأتي على رأسها الجماعات الإسلامية بكل فصائلها وأطروحاتها التي تعمل على تقسيم الناس إلى مسلمين وكفار.
ويرى أصحاب الفكر الجهادي أن كلمة “مواطن عالمي” تعني أحد أمرين: إما جهاديا إسلاميا يعتقد راسخا أن العالم كله يجب أن يتبنى الأيديولوجية الإسلامية التي يراها صالحة لكل زمان ومكان، وإما عدوا علمانيا يحارب الإسلام والمسلمين سواء كان في الغرب أو في العالم الإسلامي.. وفي كل الحالات وجب محاربته.
قادة الإسلام السياسي يمارسون في تعاملهم مع مفهوم “المواطن العالمي” نوعا من المراوغة التي باتت مكشوفة، وهي أن يقبلوا بهذه القيمة البشرية إن كانت في صالحهم، ويساندوها بقصد التمكّن في النظم العلمانية والمجتمعات الغربية ثم يرفضونها إن كانوا في مجتمعاتهم ذات الأغلبية المسلمة، ويعتبرونها نوعا من التمييع والتعويم والتراخي في تطبيق الشريعة أي أن المواطن العالمي بالنسبة لهم، هو ذاك الذي “يناصر الكفار باسم الانفتاح ويفرط في أمور دينه باسم التسامح واحترام الآخر”.
ما رسخه الإسلاميون حين أتيحت لهم فرصة التسرب والتمكن من البرامج التدريسية في بلدان عربية كثيرة، يتمثل في نقطة محورية قوامها أن التدين الإسلامي (وفق فهمهم) هو الذي يجب أن يكون فاصلا وواصلا ثم حاسما في جميع القضايا، فالطبيب الجيد هو الطبيب الإسلامي مثلا، وإن كان هذا الطبيب جيدا دون أن يكون مسلما فعليه أن يعجل بأن يكون إسلاميا كي يكتمل تفوقه، وبالتالي يمكن عندئذ بنعته بـ“المواطن العالمي”.
خبراء اليونسكو يدركون أن البرامج التعليمية هي الفضاء الحيوي الذي ينبغي افتكاكه من الأفكار المنغلقة والأيديولوجيات المتطرفة للتأسيس لقيم إنسانية مشتركة، والإسلاميون يدركون بدورهم قيمة الفضاءات التربوية والتعليمية في بث أفكارهم، ومن هنا تبدأ المعركة، وبنفس الأدوات تقريبا.
عالمية المواطنة ليست تجاوزا للخصوصيات الثقافية ولا نزوعا نحو العولمة بأشكالها الاستغلالية والاستعمارية، ولا تخليا عن قيم روحية أو غيرها، وإنما هي انخراط في المجتمع الدولي والتزام بالتصدي لكل ما يهدد البشرية مثل التطرف والقتل على الشبهة والهوية والانتماء الفكري والعقائدي.