الهجرة تمنح الشعبويين أول انتصار على الطبقة السياسية في أوروبا
تسوية يتخللها الكثير من الغموض، وأوروبا تسعى لاتفاق مع دول الضفة المقابلة للمتوسط شبيهة باتفاقها مع تركيا.
أدخل اتفاق بخصوص الهجرة، توصل إليه الزعماء الأوروبيون خلال القمة التي أقيمت في بروكسل يومي الخميس والجمعة، أوروبا في عصر اليمين المتطرف، متجاوزة بذلك مرحلة صعوده، إلى حقبة تحكمه في صناعة قرارات ورسم سياسات الاتحاد.
وتمكن رئيس الوزراء الإيطالي اليميني غوزيبي كونتي من فرض رؤيته بخصوص ملف الهجرة، الذي استأثر بالاهتمام الأكبر على القمة، بعد أسبوعين من رفض إيطاليا رسو سفينتي مهاجرين غير شرعيين في موانئها.
وهدد كونتي بأخذ المخرجات النهائية للقمة “رهينة” إذا ما لم “يتخذ الزعماء الأوروبيون خطوات ملموسة لمشاركة إيطاليا عبء المهاجرين” بوصفها دولة استقبال محورية في التكتل.
وشكل البيان، الذي صدر عن القمة فجر الجمعة، انتصارا كبيرا لمعسكر اليمين، وتمكنت دول وسط أوروبا، مثل المجر وبولندا والتشيك، من فرض رؤيتها على القمة، والضغط لكي يكون استقبال اللاجئين من قبل الدول الأعضاء، ضمن توزيع عادل، “اختيارا”.
ورغم ذلك أشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالاتفاق قائلا أمام الصحافيين إن “التعاون الأوروبي هو المنتصر”، مضيفا “لقد اتخذنا قرارا بالتكافل المتوجب علينا إزاء دول الوصول”.
بعد مفاوضات متعثرة، تمكن زعماء الاتحاد الأوروبي، فجر الجمعة، من التوافق بشأن البيان الختامي لقمتهم، وتضمن سلسلة قرارات في قضايا مثل الهجرة، وروسيا والأمن والتجارة. وأعطى الزعماء الذين اجتمعوا في بروكسل، الضوء الأخضر لفكرة إقامة مراكز استقبال للاجئين الذين يتم إنقاذهم في البحر أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، خارج أراضي دول الاتحاد. لكن، رغم إشادة القادة الأوربيين بالاتفاق برزت بعض الشكوك بشأن إمكانية تنفيذ الحلول التي تم طرحها على مستوى الدول الأوروبية كما على مستوى دول الضفة الأخرى للمتوسط والمعنية بقضية الهجرة.
ويقوم الحل الوسط الذي تم التوصل إليه في الساعة 2:30 بتوقيت غرينيتش على اعتماد “نهج جديد”، مع إنشاء “منصات إنزال” المهاجرين خارج أوروبا بهدف ردعهم عن اجتياز المتوسط.
وينص كذلك على إقامة “مراكز خاضعة للمراقبة” في دول أوروبية على أساس اختياري يوضع فيها المهاجرون بعد وصولهم، وتجري فيها بصورة سريعة عملية فرز المهاجرين غير الشرعيين الذين ينبغي ترحيلهم عن أولئك الذين يحق لهم طلب اللجوء، ويمكن توزيعهم ونقلهم إلى دول أوروبية أخرى وذلك بالمثل على أساس “تطوعي” ويشكل هذا استجابة لرغبة إيطاليا بأن يتم “تشارك المسؤولية” إزاء جميع المهاجرين الواصلين إلى أوروبا.
ويدعو الاتفاق الأعضاء كذلك إلى “اتخاذ كل الإجراءات” الضرورية على المستوى الداخلي لتجنب انتقال المهاجرين بين دول الاتحاد الأوروبي، في ما يجري من “حركات داخلية” غالبا ما تتجه نحو ألمانيا التي تشهد جدالا سياسيا أضعف المستشارة أنجيلا ميركل، وهدد بانهيار ائتلافها الهش.
ولم يكن المعسكر الليبرالي التقليدي في أوروبا ليقدّم هذه التنازلات للشعبويين لولا أن المستشارة الألمانية في موقع ضعف غير مسبوق، إذ تواجه سلطتها في مسألة الهجرة تحديا كبيرا.
فوزير الداخلية في حكومتها هورست سيهوفر يهدد بطرد المهاجرين المسجلين في بلد آخر عند الحدود بصورة أحادية ما لم تتخذ تدابير أوروبية بحلول الأول من يوليو ضد تنقّل المهاجرين داخل الاتحاد الأوروبي.
وغلق ألمانيا الحدود ليس أمرا سهلا. فالبلد بات المثل بالنسبة إلى السياسيين الأوروبيين الذين لا يزالون متمسكين بقيم أوروبا وانفتاحها. كما ينظر إلى برلين على نطاق واسع، وليس بروكسل، باعتبارها عاصمة أوروبا الحقيقية.
وأثارت تهديدات سيهوفر مخاوف سياسيين أوروبيين كثر من أن يؤدي غلق الحدود الألمانية في وجه المهاجرين إلى تأثير الدومينو بالنسبة للدول الأخرى، إذ ستتبع ألمانيا غالبية دول الاتحاد في غلق حدودها أيضا.
وإذا حدث ذلك فسيقود حتما إلى انهيار مبدأ حرية الحركة عبر الحدود، أحد الأسس التي قام عليها الاتحاد، وسيقضي على فرص الأوروبيين في الحصول على الوظائف، وسيتراجع على إثره حجم التجارة البينية بين دوله.
مساهمة العرب
تعزيز الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي هو أحد النتائج الرئيسية لقمة بروكسل، لكن، رغم حساسيتها، تبقى هذه المسألة خارج قدرات الاتحاد على تحديد مصيرها.
وستحتاج أوروبا إلى إنشاء ما يشبه “مراكز الفرز” تكون مسؤولة عن فحص المهاجرين وإعادة أغلبهم إلى بلدانهم الأصلية. وتتكون هذه العملية المعقدة والمكلفة من عدة مراحل، تبدأ بتعزيز الأوروبيين لمهام الإنقاذ في البحر، وسفن المراقبة وتنتهي بكلفة ترحيل من لا تنطبق عليه شروط اللجوء إلى أوروبا.
وبعد توقيف قوارب المهاجرين في عرض البحر، من المفترض أن تسحب سفن تابعة للقوات البحرية لدول الاتحاد هذه القوارب إلى نقطة الإنزال الواقعة في أقرب بلد أفريقي يقع على سواحل البحر المتوسط من أجل بدء عملية إيواء، تشمل إجراء فحوصات طبية على المهاجرين وتوفير العلاج والمواد الغذائية لهم على أراضي هذا البلد الأفريقي، قبل الاتفاق مع سلطاته على ترحيلهم إلى موطنهم الأصلي.
ولكي يدخل هذا التصور حيز التنفيذ، سيكون على الاتحاد الأوروبي عقد اتفاقات ثنائية مع مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ودول أخرى على الساحل الغربي لأفريقيا، مقابل تقديم مساعدات مالية كبيرة لهذه الدول لتمويل عملياتها للحد من الهجرة لأوروبا.
سيكون على الاتحاد الأوروبي عقد اتفاقات ثنائية مع مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب ودول أخرى على الساحل الغربي لأفريقيا مقابل تقديم مساعدات مالية كبيرة لهذه الدول
وتريد أوروبا تكرار الاتفاق الذي وقعته مع تركيا في مارس 2016، والذي نص على منح الاتحاد الأوروبي تركيا مساعدات بقيمة 6 مليار يورو مقابل “تبادل اللاجئين”. وساهم هذا الاتفاق في خفض أعداد اللاجئين القادمين إلى دول الاتحاد بشكل كبير.
وتواجه أوروبا مواقف رافضة للمشاركة في هذه الخطة من مصر والمغرب على الأقل، كما تشهد تعنّتا من باقي الدول، التي عرضت تعاونا من الاتحاد، لكن بشكل سيادي.
ويقول دبلوماسيون أوروبيون إن هناك دولا من شمال أفريقيا وافقت على الحصول على مساعدات مالية مقابل قيام مؤسساتها الوطنية بالتعامل مع ملف الهجرة، بدلا من تحدي سيادتها عبر إقامة مراكز إنزال تابعة لجهة أجنبية وتعمل بحرية على أراضيها.
وقال دبلوماسي مصري لـ”العرب” إن “في مصر هناك من ينظر إلى هذه النقاط المقترحة بأنها ترتقي إلى نفس مستوى القواعد العسكرية الأجنبية من منظور السيادة”.
وإذا تم تطبيق هذا النموذج، فمن المتوقع أن يقضي تماما على شبكة المهرّبين وتجار البشر، التي لا تزال تتخذ من دول يضربها عدم الاستقرار، مثل ليبيا، منصة لإطلاق أمواج من المهاجرين الذين بات معظمهم يأتي من دول أفريقية فقيرة، أو تعاني من صراعات داخلية.
يقول إغينيو أمبروزي، رئيس المنظمة الدولية للهجرة السابق، إن “الفكرة لا تعتمد على مبدأ نحن وهم، إما أوروبا وإما شمال أفريقيا”، مضيفا أنها “مقاربة أوسطية يجب أن تساهم فيها الدول التي تريد فعل ذلك.”
وأكد أمبروزي، الذي انتهت مهمته (أمس) الجمعة، ويخلفه السياسي البرتغالي والمفوض الأوروبي السابق أنطونيو فيتورينو، أن “ما لا نريد أن نراه هو مراكز فحص طلبات اللجوء في خارج الاتحاد الأوروبي، وبالطبع لا نريد أن نرى أيضا نموذج أستراليا يتكرر هنا”، في إشارة إلى مراكز احتجاز للاجئين تقيمها أستراليا على جزر في المحيط الهادئ.
ولم يتم التوصل إلى البيان الختامي بشكل سلسل. فرئيس الوزراء الإيطالي تبنى لهجة شكلت تهديدا لاستمرار القمة وأنذرت بفشلها.
وقالت مصادر حضرت القمة إن كونتي لوّح بعدم خبرة الزعماء الأوروبيين في القانون، قائلا “أنا أستاذ قانون”. لكنه واجه رد فعل عنيفا من قبل الزعماء الآخرين، إذ رد عليه رئيس وزراء بلغاريا بويكو بوريسوف قائلا “أنا كنت رجل مطافئ، لكن هذه ليست الطريقة المثلى للتفاوض معنا”، فيما قال رئيس وزراء السويد ستيفان لوفين إنه كان في السابق لحاما، وأكد لكونتي أن “هذا ليس أسلوبا تعبر به عن وجهة نظرك”.
وحذر رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك من أن يمنح عدم التوصل إلى حل “المزيد من الحجج” إلى حركات شعبوية تبدي “ميلا واضحا إلى التسلط”، وذلك رغم التراجع الكبير في عدد الوافدين إلى أوروبا بالمقارنة مع الأعداد الضخمة التي سجلت في خريف 2015.