الفيسبوك.. جاسوس خفي داخل البيوت
الفيسبوك يغذي بلا شك الحالة النفسية للبعض ويهزم الوحدة والشعور بالملل، ولكنه ينتهك حدود الخصوصية بكشف المختبأ في الزوايا حين نتعرى على شبكات التواصل.
من غير المعقول أن نضع كاميرات تجسس على أنفسنا في كافة زوايا البيت والحياة، وليس من الممكن أيضا أن نتركها تتجول في أعماق حياتنا لتكشف عن أدق تفاصيلها، وتنقل جميع أحوالنا بلا خجل، فهذا الفعل يعد تمردا صريحا على قوانين الدعاء بالستر، وخروجا عن المألوف في دستور البشر بالتخفي عن أعين المتلصصين.
لكننا للأسف الشديد نفعل هذا بأنفسنا وأكثر، حين حولنا مواقع التواصل الاجتماعي إلى جواسيس اختيارية نسلط أجهزة مراقبتها على أنفسنا، تحولت إلى نوافذ فضفضة ومشاركة الحياة العامة والخاصة وتفاصيل الحياة بكل ما هو شخصي وممنوع على الآخرين الخوض فيه، أدخلنا غرباء إلى غرف نومنا وقاسمناهم نوايانا وأحلامنا للغد.
تكتظ صفحات الموقع الأزرق بصور الطعام والشراب وكافة المأكولات والعصائر التي تقوم ربة المنزل بإعدادها لأسرتها، فالوجبة لا تكتمل دون صورة كبيرة لصواني الطعام والأطباق اللذيذة بعد أن أضحى التصوير جزءا لا يتجزء من عملية تحضيرها، وتتشارك الصور بالقطع مع الأصدقاء الإفتراضيين الذين يشاركون صورهم وتتوالى الأمور وتتطور إلى أن تصل لتفاصيل أبعد من الطعام وأقرب لغرف الأطفال وربما غرف النوم أيضا، وتزداد الخطورة في الكلام غير المباح عن خلافات ومشاحنات مع شريك الحياة.
لا أنكر الدور المحوري للأصدقاء في حياتنا ولكن يجب الحرص الشديد مع من نتحدث، ومن نطلق عليه صفة صديق، فلا يمكن أن يفترش المرء أرصفة الفيسبوك بتفاصيل حياته الشخصية وكيف أنه فشل فشلا ذريعا في التعامل مع حبيبته مثلا، أو كيف فقدت الفتاة الأمان والدفئ في بيتها بين أبويها، وكم تعاني الوحدة والفراغ ليدخل فارسا يمتطي صهوة الكذب وعلى فرس أبيض من وهم يتقرب لقلوب سكنها الوجع فباتت في مسيس الحاجة إلى من يشفي جروحها.
الجميع يتبارى في عرض خصوصياته على قارعة الفيسبوك في تنافسية شرسة كأنما يتسابقون للفوز بجائزة ما، ويتفننون في إظهار الوهن الساري في فؤادهم من هجر الحبيب أو قسوة القدر وعبثية الآخرين معهم، وبالطبع يتحدثون بمثالية شديدة لكسب تعاطف الآخر في معركة محسومة لصالح من يسبق ويقص وجيعته أولا.
ما بين تعارف وتكوين علاقات وصداقات وفضفضة، حب وكراهية، خيانة زوجية بعد إدمان الحديث إلى غريب يجيد الإنصات ويلقي بكلمات معسولة على قلب حبيبة ضعيفة ربما أهملها الزوج متعمدا من أجل أخرى كانت تفضفض مثلها وهو ينصب شباكه على ضحيته مثلما نصب غيره الشباك على زوجته. أو مجبرا لاهثا خلف الرزق وتوفير حياة كريمة لها ولأبنائها لكنها لم تستطع الصبر فلجأت لآخر يهدهد أنوثتها. وتعرض النساء هدايا الأبناء بكل زهو وفخر كقائد معركة حربية تعرض غنائمه حتى يثبت النصر، فتثير حفيظة نساء فقدن المودة والرحمة مع أبنائهن وللأسف الشديد تدخل الأمور في دائرة الخطر خاصة بعد مشاركة الآخرين لأدق التفاصيل الشخصية.
يغذي الفيسبوك بلا شك الحالة النفسية للبعض ويهزم الوحدة والشعور بالملل، ولكنه ينتهك حدود الخصوصية بكشف المختبأ في الزوايا حين نتعرى على شبكات التواصل.
ربما نسينا الغرض الأساسي منها وهو التواصل فقط، وتخطينا حواجز الزمن والمسموح إلى التعارف والفضفضة والتراشق بالألفاظ والكلمات الجارحة أو تبادل الغزل والعلاقات التي بالتأكيد معظمها خطأ يجرفنا إلى أخطاء أكبر وأعمق.
وربما أنهت علاقة فيسبوكية سطحية حياة زوجية مستقرة بعد رحلة من الجحيم وتجرع المرارة، بعدما تتحول النظرة للشريك وتختلف زاوية رؤيته ليصبح بين ليلة وضحاها عدوا يحاول الطرف الآخر الفكاك منه، وكم من علاقة بدأت في عالم افتراضي لتتحول لحقيقة ملموسة وتهدم أسرا وعوائل، أو تلقي بأطفال في الشوارع.
المثير للشفقة والسخرية في آن أننا نجلس إلى هواتفنا الذكية وأجهزة الكمبيوتر بإرادتنا الحرة دون إجبار من أحد لنسقط ورقة التوت ونكشف عوراتنا وما تخفيه الأبواب المغلقة للآخرين، ثم نبكي بعد حدوث كوارث.
وما حادثة الشاب الذي هدد الفتاة بصور أرسلتها له عارية والتهديد بنشرها إذا لم تدفع له مبلغا كبيرا من المال، واستيقاظ شباب المنطقة على صور الفتاة على هواتفهم، ثم العثور على جثة الفتاة المراهقة بعد أيام في مصرف الماء، إلا إفراز طبيعي ونتاج حتمي لخيارات أخلاقية وتعاملات منفتحة خاطئة في غير محلها وبلا رقابة.