استمرار المقاطعة في المغرب ينذر بحراك مدني
Jun 11, 2018
أذكر أني في السنة ما قبل الماضية قد تناولت في محاضرة لي ألقيتها في جامعة محمد الخامس في الرباط، في إطار مادة العلوم السياسية، وبشكل أدق تحليل السياسات العمومية، المخطط الأخضر كنموذج للدراسة، وما أثار انتباهي هو مداخلات الطلبة والطالبات، وإدراكهم العميق بفشل التجربة وضعف نتائجها، فالمداخلات لا تنسجم مع المخرجات، بمعنى أن الأموال المرصودة للمخطط لم تفرز نتائج ذات أهمية تذكر. ومن المؤشرات التي اعتمدوا عليها لإثبات هذا الفشل ارتفاع أثمان بعض المنتجات التي سعى المخطط إلى الرفع من انتاجها. ومن ذلك، زيت الزيتون واللحوم والحليب وغيرها من المواد الفلاحية الأساسية، هذا إلى جانب استمرار الوضع الهش في العالم القروي، واستمرار معدلات الفقر في الأرياف، وبعبارة أوجز لازالت دار لقمان على حالها.
وسبب الفشل في نظرنا هو محدودية أفق السياسات العمومية في القطاع الفلاحي، وحالة تضارب المصالح، فالقائمون على وضع وتنفيذ المخطط الأخضر هم من كبار الفلاحين في المغرب، فكيف يمكن اتخاد إجراءات سياسية وتنفيذية، بشكل موضوعي وتصب في اتجاه خدمة الفلاح المغربي والقطاع الفلاحي الذي يمثل العمود الفقري في الاقتصاد المغربي.
هذه المقدمة فرضها السياق، والسياق ارتفاع أصوات من داخل النظام السياسي المغربي تحمل المقاطعين لمنتجات شركة، تختص في الحليب ومشتقاته، مسؤولية الإضرار بالفلاح المغربي وتعريضه لخسائر فادحة.
والواقع أن هذا الاتهام مجانب للصواب وادعاءات الحكومة باطلة، وتحاول إخفاء عجزها في بناء اقتصاد فلاحي قوي والرفع من قيمته المضافة عبر سن قوانين وتشريعات، واتخاذ تدابير وأدوات مالية ونقدية، تدعم الفلاح الصغير والمتوسط، بدل الانحياز لكبار الفلاحين، وهم في الغالب من رجال السياسة والمحتكرين للمناصب السامية في الدولة المغربية.
فادعاء الحكومة بأن مقاطعة منتوجات الشركة الفرنسية يضر بالفلاح هو محاولة فاشلة لكسر شوكة المقاطعة وتحميلها ما لايطاق، وأتوجه بخطابي هذا تحديدا، إلى السيد لحسن الداودي بصفته وزيرا في حكومة العثماني أولا، وبصفته رجل اقتصاد سياسي ثانيا.
فعندما يصرح السيد الداودي بأن مقاطعة منتجات هذه الشركة سيضر بالاقتصاد الوطني عامة، والفلاحي خاصة، فذلك أمر يدعو إلى الاستغراب. فمن أبجديات اقتصاد السوق أن ارتفاع الطلب على منتوج ما يؤدي في المدى القصير إلى ارتفاع ثمنه، والعكس صحيح. فإذا كانت الشركة سالفة الذكر، تعاني من المقاطعة وضعف الطلب على منتوجاتها، بالشكل الذي يحاول السيد الداودي التعبير عنه – ليس قولا وإنما فعلا بالمشاركة في مظاهرة في الرباط احتجاجا على فئة من الشعب، قررت مقاطعة بعض المنتجات – فإن منتجات الشركة ينبغي أن تسجل انخفاضا في أسعارها، وإغراق السوق بمنتجاتها المكدسة في المخازن إنقاذا لها من التلف، وهو ما سيقود حتما إلى انخفاض في الأسعار وهبوطها إلى ما دون 5 دراهم للتر الواحد من الحليب، وهو ما تطالب به حملة المقاطعة. فإذا ما تحقق ذلك سوف يرتفع الطلب على منتجات الشركة بالتدريج على المدى القصير لأن انخفاض الطلب على سلعة ما يقود إلى ارتفاع الطلب عليها، وستستطيع الشركة العودة لسابق عهدها ولاسيما وأنها شركة عابرة للحدود.
كما أن التضخيم من حجم الشركة ودورها في تجميع الحليب فيه قدر من المبالغة، فالأسواق لم تعان من نقص في المعروض من الحليب ومشتقاته، فالشركات المنافسة استفادت من حملة المقاطعة، ولاسيما بعض التعاونيات الفلاحية، التي لم يكن بمقدورها في السابق، منافسة شركة متعددة الجنسية، وتحظى بدعم وغطاء سياسي منقطع النظير.
فبعض العلامات التجارية أصبحت تجد مكانا على رفوف ثلاجات المحلات التجارية، وفي ذلك تعويض للخسائر المحتملة التي قد تمس الفلاح الصغير. فارتفاع الطلب على منتجات الشركات المنافسة سيقود إلى زيادة في الإنتاج لمواكبة الطلب المتنامي، وذلك له تأثير إيجابي على صناعة وتسويق الحليب ومنتجاته على المدى المتوسط والبعيد بكسر الاحتكار، وتعدد الخيارات أمام المستهلك المغربي، وهو ما سيقود إلى تحسن في الجودة وانخفاض في الأسعار بفعل اتساع دائرة المنافسة، وصعوبة تكوين «كارتل» ضد المستهلك وهو الأمر الذي ولد حملة المقاطعة.
أما التدخل الحكومي فهو يخلق حالة عداء مع المستهلك يضر بالشركة المعنية أكثر مما يساعدها، فآلية العرض والطلب كفيلة بعلاج الاختلال فالشركة لن ترغب في تكدس منتجاتها في المخازن فهي سوف تتبنى سياسات تجارية وتسويقية، تساعدها على رفع الطلب على منتجاتها ، فخفض الأسعار والتقليص من هامش الربح كفيل بإعادة التوازن للسوق.
لكن ادعاءات الحكومة بأن المقاطعة أضرت بالفلاح والعاملين في الشركة فذلك أمر في غير محله فالتخوف الحقيقي هو أن تتحول هذه المقاطعة الاقتصادية إلى مقاطعة تشمل منتجات وشركات جديدة، بل تطورها إلى مقاطعة لقواعد اللعبة الاقتصادية/السياسية، التي أسست لاقتصاد ريعي يخدم الأوليغارشية الحاكمة التي تسيطر على السلطة والثورة.
وفي هذا السياق علينا أن نتذكر بأن الثورة السياسية في أوروبا بدأت بالمطالبة بمبدأ اقتصادي هو «دعه يعمل دعه يمر»…فهل المغرب على مشارف حراك مدني مناهض للاستغلال والاستعباد بشقيه الاقتصادي والسياسي؟