الفلسطينيون يهزمون إسرائيل بأقدام الأرجنتين
الهدف الذي حققه الفلسطينيون بأقدام منتخب الأرجنتين، يمكن أن تكون له مردودات كبيرة، عندما تتم دراسة المعاني التي ينطوي عليها، وتحديد معالم طريق الخيار السياسي بكل مفرداته.
الضربة التي تلقتها إسرائيل بسبب اعتذار فريق الأرجنتين عن مواجهة منتخبها السبت، تحمل الكثير من المعاني السياسية، وتجعل من إعادة النظر في الآليات الحالية فرض عين على كل القوى الفلسطينية، التي يريد بعضها احتكار الحل والعقد، وبسط يدها على جميع المفاتيح، ما أدخل قضيتهم نفقا قاتما.
دعونا نتفق أولا أن هناك خللا فاضحا في موازين القوى لصالح إسرائيل، وفرق المقاومة المسلحة تعمل لحركاتها وليس لمصلحة الفلسطينيين، والنتائج التي وصلنا إليها جراء هذا الخلل كارثية، بل ثمة دول كثيرة في العالم فقدت التعاطف مع الشعب الفلسطيني جراء غياب الرؤية والبرامج وزيادة حد الصراعات والانقسامات بين الفصائل.
كل المحاولات التي جرت لكسر عظم إسرائيل عبر أدوات المقاومة، من عمليات استشهادية أو انتحارية وعبوات ناسفة وحتى الطائرات الورقية، أخفقت في التأثير على المشهد، وربحت منها إسرائيل وحققت من ورائها مكاسب نوعية عديدة، وفي المقابل حققت التحركات الشعبية المنظمة نتائج مبهرة.
مسيرات العودة عندما بدأت عفوية دون حسابات حركيّة مباشرة ضغطت على إسرائيل وأجبرتها على الدفاع عن نفسها، وجلبت تعاطفا دوليا لافتا، فقد وُضع المقلاع في مواجهة الرصاص الحي، ووقف مواطنون عزّل أمام الدبابات. وأدى تكرار هذه المشاهد إلى إحداث تغيير في بعض المفاهيم المغلوطة التي درجت على ترويجها إسرائيل.
عندما خرجت المسيرات عن خطها الشعبي وبدأت حركة حماس وحلفاؤها الانحراف بها نحو جبهات غامضة، فقدت بريقها وخسرت زخمها، ونظر إليها العالم باعتبارها أداة تخدم أجندة قطر ومصالح إيران وأهداف تركيا.
ما لم تنتبه إليه الحركة وغيرها أن التوظيف الخارجي للقضية ينحرف بها بعيدا، ويضر بأي تقدم معنوي يمكن أن تحققه. اللعب على هذا الوتر يقدم لإسرائيل هدية ثمينة، وتحقق مغالطات قادتها المتعمدة تقدما رمزيا، بذريعة أنها لا تواجه شعبا أعزل يريد الفكاك من قيود الاحتلال، لكنها تواجه قوى خارجية تريد النيل منها. وهي حيلة تجيد تسويقها وتجد ما يدعمها لأن التصرفات القصيرة تؤدي إلى كوارث بعيدة.
منتخب الأرجنتين لم يجهض حيلة إسرائيل في ترسيخ القدس عاصمة لها في وجدان مئات الملايين من المعجبين بميسي ورفاقه، لكنه أكد أن هناك تيارا رافضا لممارساتها العدوانية
التصورات التي حاولت حماس إشاعتها بين المواطنين كانت قاصرة. اعتقدت أن بإمكانها تحقيق مكاسب سريعة تجعلها الرقم الأول في المعادلة الفلسطينية. أدخلت المسيرات الشعبية ضمن الحسابات الحاكمة لمواجهتها المحتدمة مع حركة فتح وقيادة السلطة الفلسطينية. فقدت المسيرات بريقها وكاد ما حققته من إنجازات يذهب أدراج الرياح، وهبط ما تمتعت به من حراك عفوي نقي، بمجرد أن من دخلوا على الخط أرادوا توظيف الحراك الشعبي لمصلحتهم.
الحماقة التي ارتكبتها حماس ليست جديدة عليها، ولن تكون الأخيرة، طالما هناك إصرار على تغليب الرؤية الحركية الفصائلية على نظيرتها الوطنية. الخطأ أيضا جزء يسير من سلسلة أخطاء وقعت فيها معظم القوى الفلسطينية وضعت القضية العربية الأم في مأزق قد يكون من الصعوبة الفكاك منه، في وقت بدأت دوائر كثيرة البحث بجدية عن مخرج للأزمة الفلسطينية.
في غياب التوافق والتلاقي والتفاهم بين القوى والحركات الوطنية، يصبح الحديث عن تحديد مصير القضية كبوة جسيمة، من خلال صفقة القرن أو غيرها من مبادرات تجري دراستها والتباحث بشأنها، فأي خطة عملية سوف تكون ظالمة للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. لذلك يجب الاستفادة من درس الأرجنتين القاسي بالنسبة لإسرائيل.
القسوة جاءت مما حمله الموقف الرياضي من مضامين سياسية. هي ليست مجرد مباراة في كرة القدم، أو نزهة كروية كان سيقوم بها منتخب الأرجنتين للأراضي المقدسة، لكنها مباراة ساخنة، أرادت بها إسرائيل تسجيل مجموعة من الأهداف في جميع حراس مرمى الضمير الإنساني في دول مختلفة.
اعتذار منتخب الأرجنتين خلّف وراءه جملة من التداعيات السياسية لم تتخيل إسرائيل أن تواجهها، وهي التي اعتقدت أن وجود نجوم منتخب الأرجنتين مثل، ميسي وكوتينيو وديبالا وأجويرو، ورفاقهم في القدس، سوف يدشن المدينة المحتلة كعاصمة أبدية لها وبلا منغصات.
تزامن التوقيت مع الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس إسرائيل ليس عفويا. الرغبة في إقامة المباراة عقب الاحتفال بنقل السفارة الأميركية بنحو ثلاثة أسابيع، غرضها الاستفادة من الأضواء التي كان من المتوقع أن تُسلّط على نجوم الأرجنتين، بحسبانهم أول فريق عالمي يلعب في القدس بعد القرار الأميركي.
عدم إقامة المباراة لمخاوف أمنية أو دواع سياسية، ترك مردودات إيجابية في دول كثيرة. دول تتعاطف أو تتباعد أو تتردد في علاقاتها مع إسرائيل، لأن اعتذار الأرجنتين لن يمر مرور الكرام، فقد أحدث دويا في أوساط متباينة، وأحرزت القضية الفلسطينية هدفا بأقدام لاعبي الأرجنتين في وقت غاية في الصعوبة، كانت إسرائيل تمكنت فيه من إحراز حزمة أشد مهارة من الأهداف السياسية والأمنية على مدار السنوات الماضية.
قيمة الهدف الفلسطيني أنه يعيد الاعتبار إلى أدوات المقاومة الشعبية. فلم يكن لنجوم الأرجنتين أن يفضلوا الاعتذار الآن من غير أن يصل إلى أسماعهم حجم الخروقات التي ترتكبها إسرائيل، وارتفاع عدد الضحايا الذين وقعوا برصاص قوات الاحتلال في غضون الشهرين الماضيين، واليقين أن هناك جمهورا عربيا ومسلما يتابع إبداعاتهم في الملاعب المختلفة.
الحماقة التي ارتكبتها حماس ليست جديدة عليها، ولن تكون الأخيرة، طالما هناك إصرار على تغليب الرؤية الحركية الفصائلية على نظيرتها الوطنية
المهم الاستفادة مما حصل بشأن ضرورة العزف على وتر المشاعر لدى دول العالم. فإذا كانت الأدوات السياسية عاجزة والقوة المسلحة فاشلة، من الواجب إعادة النظر في كيفية تفعيل المقاومة الشعبية. العالم تغير وتوازنات القوى أخذت أبعادا غير تقليدية، والشعوب قد تتأثر مواقفها من خلال نقل الصور الفلسطينية التي تظهر الفجوة في المواجهة. الساسة أنفسهم أصبحوا أكثر خضوعا للرأي العام.
لذلك من الممكن تحقيق اختراقات كبيرة عبر الوسائل الشعبية. المسيرات السلمية لن تواجه بالسلاح من جانب إسرائيل. وإذا حدث المزيد من الترهيب والتنكيل فإن العالم لن يصمت. ومهما بلغت حدة الانحياز مع مواقف إسرائيل فلن تستطيع الشعوب التغافل عما تفعله بحق الفلسطينيين، ولن يتمكن السياسيون من غض الطرف عن انفعالات الشعوب.
منتخب الأرجنتين لم يجهض حيلة إسرائيل في ترسيخ القدس عاصمة لها في وجدان مئات الملايين من المعجبين بميسي ورفاقه، لكنه أكد أن هناك تيارا رافضا لممارساتها العدوانية. تيار يمكن الاقتراب منه وكسب تعاطفه لصالح القضية الفلسطينية إذا خلصت النوايا الوطنية، وابتعدنا عن استخدام أدوات وتبني رؤى تحقق أغراض إسرائيل.
الهزيمة التي تلقاها بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل وطاقم حكومته، بسبب عدم استجابة القيادة السياسية في الأرجنتين للضغوط التي مورست عليها، رسالة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، تضاف إلى الرسائل التي تلقاها من المواقف الدولية في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وتشي بأن النقلات السياسية من هذا النوع يمكن أن تكون عديمة الجدوى ما لم تتوافر لها إرادة دولية داعمة لها.
الهدف الذي حققه الفلسطينيون بأقدام منتخب الأرجنتين، يمكن أن تكون له مردودات كبيرة، عندما تتم دراسة المعاني التي ينطوي عليها، وتحديد معالم طريق الخيار السياسي بكل مفرداته، كمنهج أساسي تلتف حوله القوى الوطنية لجذب تعاطف دولي جديد يعيد الزخم للقضية الفلسطينية.