الهجرة السرية.. توابيت تمخر عباب البحر المتوسط
العابرون إلى الضفة الأخرى، هم أكثر ممن منعهم الغرق أو حتى خفر السواحل من الوصول ثم ليس لدى هؤلاء ما يخسرونه غير هذا الكم الهائل من الإحساس بالإحباط.
كل شيء يكاد يثير المفارقة والالتباس في المغرب، فحتى الهجرة السرية، لم تعد هجرة بالمفهوم الاصطلاحي المتعارف عليه أي ذلك الانتقال الطوعي أو القسري لأفراد أو جماعات من موطنهم الأصلي إلى مكان آخر، والاستقرار فيه بشكل دائم أو مؤقت بحثا عن مستوى أفضل للعيش والسكن والأمن، ذلك أن أفضلية “العيش والسكن والأمن” أمر لا يتوفر في أغلب الأحيان بالنسبة لمن يعرف الظروف التي يعيش فيها هؤلاء المهاجرين في الضفة الشمالية من المتوسط.
كما أن صفة “السرية” المعطاة لنوعية هذه الهجرة تبدو بدورها غير واضحة إذا ما علمنا بأن أمورا واتفاقيات كثيرة تتم في العلن، وبتواطؤ واتفاق كاملين من أطراف داخلية وخارجية، مدنية وأمنية وسياسية، فاعلة ومؤثرة في هذه الهجرة شبه السرية.. بما في ذلك أصحاب المراكب المتهالكة التي يؤجرها أصحابها للمتاجرين الجدد بالبشر في عرض البحر المتوسط.
المتابع لحيثيات وتطورات حادثة غرق مركب المهاجرين السريين على سواحل جزيرة قرقنة التونسية، تألّم لفداحة ما حصل بطبيعة الحال، وربما ذرف بعض الدموع لحصول هذه الفجيعة في شهر رمضان، وما يمثله من خصوصية روحانية واجتماعية، بالإضافة إلى أن المخاوف والتوجسات المتعلقة بهذا الشهر، مصدرها بالعادة، الإرهاب وليس التهريب، لكن هؤلاء المتألمين الآن لهول ما حدث، سوف ينسون، كما نسوا في الماضي مآسي هذه الهجرة نحو الجحيم، وربما سوف يلتحق بعضهم بمراكب الهجرة المتهالكة، و“يجرب حظه” في الوصول إلى هناك، أرض تحقيق الأمنيات وفق ما أراده ونسجه وأوهم به شعوبهم، حكام الضفة الجنوبية مع حكام الضفة الشمالية على حد سواء.
وعلى الرغم من أن المحللين يربطون بين حالتي الإرهاب والتهريب، إلا أن الجثث المشوهة أو المتفحمة في العمليات الإرهابية، أقل تراجيديا من تلك التي تنتهي متفسخة على الشواطئ أو طعاما للأسماك، ذلك أن أصحاب هذه الجثث قد قرروا الذهاب نحو مصائرهم فإما على اليابسة وإما في الماء. أما “الجثث” التي قدّر لها أن تنجو بما يشبه الأعجوبة و“يؤجل دفنها”، فإن الكثير منها تعاود الكرّة مستفيدة من “قوانين وعلوم الإحصاء” كما قال أحد المعلقين، ذلك أن العابرين إلى الضفة الأخرى، هم عادة ـ وفي مجملهم ـ أكثر نسبيا في العدد ممن منعهم الغرق أو خفر السواحل من الوصول ثم أنّ ليس لدى هؤلاء ما يخسرونه غير هذا الكم الهائل من الإحساس بالإحباط واللاجدوى.
هذا المشهد الذي يتفق الجميع على قتامته وتراجيديته، تتبادل كل الأطراف حوله الاتهامات وما تنفك تحمّل المسؤوليات لبعضها البعض، وهو أمر سهل وفي متناول الجميع بطبيعة الحال، خصوصا إذا دخلت الهجرة السرية معترك المزايدات الانتخابية لدى البلدان المصدرة والبلدان المستوردة بالتساوي، متناسين في ذلك ما يسقط بينهم من الضحايا في عمق البحر، وبصورة تكاد تكون شبه يومية.
إذا علمنا في إطار الهجرة السرية أو “غير الشرعية” كما يحلو للسياسيين توصيفها، بأن المسؤوليات يكاد يتقاسمها، وبالتساوي الشمال والجنوب، مع إمكانية ترجيح الضفة لصالح الجنوب على اعتبار أن الشمال لم يف بوعوده ولم يقم بواجباته في مسألة التنمية والاستثمار في ما يحفز الشباب على الاستقرار في بلدانهم، فإن الجميع ينسى أو يتناسى مسؤولية “الضحايا” من الشبان المهاجرين سواء كانوا من المغرر بهم أو من المغررين بأنفسهم.
ينبغي أن نعلم بأن الهجرة نحو أوروبا بالنسبة للمغاربة على الأقل، ليست بالضرورة من أجل العمل وتحسين المستوى المعيشي، فبعض الشبان هجروا أعمالهم ووظائفهم ليعيشوا عاطلين عن العمل في أوروبا أو سعيا وراء الكسب السريع من خلال أعمال ونشاطات غير قانونية.
الكثير من الشبان المغاربة الذي هاجروا إلى إيطاليا او بلجيكا ، تركوا خلفهم من المشاريع الزراعية الصغيرة والمتوسطة ما يمكنهم من العيش الكريم في ما لو اشتغلوا وثابروا بمثل ما يبذلونه من جهد في بلدان المهجر ، وضمن ظروف نفسية واجتماعية قد تكون أيسر وأفضل.
لا يمكن تصنيف هذا الهوس بالعبور إلى الضفة الأخرى لدى الشبان المغاربة إلا في خانة القلق النفسي والوجودي دون إسقاط الأسباب الموضوعية المعيشية التي غالبا ما يكتفي الدارسون بإقرارها دون غيرها.
إن إجراء مقارنة بسيطة بين الشبان المغاربة ونظرائهم من الأفارقة وحتى من مواطني شمال أفريقيا، يجعل المرء يكتشف أن الحظوظ الموضوعية للمغاربة في الاستقرار ببلادهم وتحسين ظروف عيشهم، أوفر بكثير من غيرهم، في حين يلتهي المغاربة في الحلم بالهجرة إلى أوروبا.