الهجرة السرية.. بين محرقة المهجر ومقبرة البحر

القضية في العمق هي قضية خيبة أمل جماعيّ في صناعة دولة الكرامة الاجتماعية والحريات السياسية والحقوق المدنيّة.

الثلاثاء 2018/06/05
هي الفاجعة التي ألمت بتونس مساء الأحد الماضي، بعد أن لفظ البحر جثث العشرات من الشباب المهاجرين خلسة من سواحل جزيرة قرقنة من الذين رفض “المتوسّط” عبورهم من الضفة الجنوبية إلى الشماليّة.

هي الفاجعة، لأنّ الإعلام المتابع لحادثة غرق السفينة المتهالكة تحول بفعل الصدمة من تعداد الأموات والمفقودين إلى احتساب الناجين والمنتشلين، ليصبح الهلاك خلفية إخبارية والنجاة استثناء في تغطية إعلامية بمرارة العلقم.

هي الفاجعة، لانّ محاولات الهجرة السرية (تعرف في تونس باسم الحرقة)، ازدادت وتيرتها كما وكيفا خلال السنوات القليلة الماضية، فصار المتابع لا فقط يشاهد هجرة مباشرة على شبكات التواصل الاجتماعي بل انسحبت الهجرات على طبقات كانت بالامس بمعزل عنها، على غرار النساء الحوامل والكهول والأطفال الصغار الأدهى والأمر أنّ بعض الفيديوهات أبرزت عائلات برمتها تحمل أرواحها على كفّ عفريت المتوسّط باحثة عن “البديل” الاجتماعي أو هكذا تزعم.

أن تفقد تونس الليلة قبل الماضية نحو 100 من أبنائها المهاجرين خلسة، يضع أكثر من نقطة استفهام حول نجاعة البرامج الاجتماعية والاقتصادية في تونس الثورة ومن نقطة استفسار حول الخطاب السياسي والاتصالي الموجّه لطبقة الشباب من الحاملين لشهادات عليا والحالمين بالحدّ الادنى من الكرامة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

صحيح أنّ الدولة دشنّت الكثير من البرامج في مجال تشغيل الشباب وفي إطار استحثاث المبادرة الخاصة، ولكنّ الحقيقة أنّ المخرجات كانت أدنى من المنتظر وطنيا، لعدّة اعتبارات لعلّ أهمها غياب الإطار الاستثماري الحقيقي في تونس وقصور الرأس المال المتاح للشباب لبداية مشروع طموح، والتنافر بين التكوين الجامعي والمجالات المطروحة للاستثمار والأهمّ من كل ما سبق استمرار العقلية التواكلية على الدولة في التشغيل والتوظيف.

وأنّ تستمر ظاهرة “قوارب الموت” بشكلها الرديء، مفرزة ضحايا جدد سواء في محرقة “حياة اللاحياة” في بلاد المهجر أو في “مقبرة” المتوسّط، لهو مؤشر واضح وجليّ على أنّ حالة من انسداد الأفق وخيبة الأمل تنسحب على جزء معتبر من الشباب.

وأن تستمر ظاهرة “تيتانيك البؤساء والتعساء“، بشكلها الدوري المرعب، لهو دليل على أنّ منظومة من التهريب والإرهاب الناعم تعمل على السواحل التونسية، وأن حيتانا سمينة ضارية لا تقل وحشية عن الحيتان المتحركة في المتوسط توظّف أحلام الشباب في الهجرة وبناء المستقبل، كغنيمة حرب للاستكراش على حساب آمال الضعفاء والفقراء.

الإعلام المتابع لحادثة غرق السفينة المتهالكة تحول بفعل الصدمة من تعداد الأموات والمفقودين إلى احتساب الناجين والمنتشلين

ولئن كان جزء من جهد الدولة منصبا اليوم على ضرب مسلكيات الإرهاب ومسالك التهريب، فإنّه من أوجب الواجبات الالتفات إلى الإرهابيين الجدد الذين يقدّمون أبناءنا وفلذات أكبادنا ضحايا ولحما رخيصا للعمالة المهينة أو قُوتا لبحر لا يشبع من جثث الشباب الحالمين.

لن نستثني الشباب المتعلّم من المسؤولية الاخلاقية والإجرائية في القفز نحو المجهول أو الـرقص مع ذئاب التهريب، ولن نبرئ بعض العائلات التونسية التي قد تدفع أبنـاءها دفعـا نحو “المحـرقة” أو“المهلكـة”، ولن نسقط أيضا في سياق التبرير “لانتحار ناعم” فرضيات النجاة فيه أقل من فرضيات الهلاك.. فكلّ هؤلاء مسؤولون، وإن بنسب متفاوتة.

ولكن من الواجب أيضا الإشارة إلى خطورة “الفاجعة”، سيما عندما تترابط مع مؤشرات العطب المجتمعي وفشل الدولة، الكامنة في ازدياد ظاهرة الانتحار وزيادة الجريمة الفردية والمنظمة وارتفاع نسب الهجرة الشرعية منها وغير الشرعيّة.

وللأسف لم تلتفت الدولة بالشكل المطلوب، إلى كلّ هذه المؤشرات ولا إلى دلالاتها الخطيرة، ولا يبدو أنّ الحكومة القائمة على الأقلّ والغارقة في بحر من المشاكل والمطبات، قادرة على انتشال الشباب “العاطل عن العمل والأمل” من مستنقع الثلوث المدنّس، الجريمة والمخدرات والهجرة غير الشرعية.

القضية في العمق هي قضية خيبة أمل جماعيّ في صناعة دولة الكرامة الاجتماعية والحريات السياسية والحقوق المدنيّة، وهو ما يفسرّ أنّه في ذات الوقت الذي تعبر خلاله سفن الموت بحر المتوسط تحمل الطائرات عشرات الآلاف من الكفاءات الجامعية والأدمغة الوطنية نحو الخليج أو أوروبا.

ومن الطبيعي عندما تنسدّ الآفاق وتخيب التطلعات وتصبح البلاد رهينة فاعلين ماليين دوليين يعملون وفق قاعدة “إنقاذ الاقتصاد باستهداف قوت ومعيشة العباد“، أن يتم البحث عن البدائل والخيارات خارج حدود الوطن ومحكوم على كلّ دولة لم تجد حلولا جديّة لأبنائها على أرضها أن تضيّعهم في البحر أو على أتربة الجوار.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: