أئمة رمضان الوافدون على فرنسا يثيرون جدلا حقوقيا
العدد الكثيف من الأئمة الذين ترسلهم بلدان إسلامية إلى فرنسا بدأ يثير جدلا ما ينفك يتسع في الأوساط السياسية، وهو المطالبة بتأهيل هؤلاء الأئمة على الأراضي الفرنسية ووفق البيئة والثقافة المحليتين، وذلك حرصا على عدم حياد هؤلاء عن مبادئ العلمانية التي كانت بدورها محل نقاش من ناحية كونها قد أقرت بداية القرن الماضي عندما كان المسلمون لا يشكلون الكتلة التي هم عليها الآن، مما يستلزم إعادة النظر فيها.
ككل عام وبمناسبة شهر رمضان، يثار نقاش حول وضعية الإسلام في فرنسا، بسبب العدد الكثيف للأئمة الذين توفدهم بلدان عربية وإسلامية لتغطية النقص في الأئمة بعدد من المساجد في البلاد، بناء على اتفاقيات ثنائية مبرمة بين باريس وهذه البلدان؛ وهو سلوك دأبت عليه فرنسا منذ عقود طويلة، من دون أن يثير جدلا كبيرا بالحجم الذي أثاره هذه المرة، خصوصا وأن استقبال الأئمة في رمضان، شكل تقليدا سنويا لمختلف الحكومات الفرنسية، سواء كانت تنتمي إلى اليسار أو اليمين، وبصرف النظر عن مواقفها من الإسلام في الديار الفرنسية.
لكن الجدل هذا العام اتسع بحيث وصل إلى البرلمان الفرنسي، إذ يعتزم فريقان برلمانيان هما “فريق اتحاد الوسط” و”اتحاد الوسط” اللذان يجمعان النواب المنتمين إلى الوسط ويمين الوسط، اقتراح مشروع قانون في منتصف شهر يونيو الجاري، حول تكوين الأئمة في فرنسا.
ويهدف المشروع، بحسب هذا التجمع اليميني، إلى قطع الطريق أمام تدخل بلدان عربية في الإسلام الفرنسي من خلال إرسال المئات من الأئمة في كل عام، وضمان أن يتم تكوين هؤلاء فوق التراب الفرنسي، بحيث يخضعون لتأهيل ديني يحاول الجمع بين الجانب الشرعي في الإسلام وبين العلمانية الفرنسية، من دون أن يظل هؤلاء الأئمة الأجانب مفصولين عن الواقع الثقافي والسياسي الفرنسي.
وقد احتدّ هذا الجدل خلال هذا العام بالنظر إلى التحولات الداخلية في فرنسا التي حصلت في أعقاب عدد من التفجيرات الإرهابية خلال السنوات الثلاث الأخيرة وخلفت عددا من القتلى، بحيث بات المسلمون الفرنسيون والمهاجرون من البلدان العربية والإسلامية محل شبهة، ما غذى كثيرا الممارسات ذات الطابع الإسلاموفوبي.
ويقدر عدد الأئمة الذين يتم إرسالهم كل شهر رمضان إلى فرنسا بما يزيد على 300 إمام وواعظ، جلهم من المغرب، الذي يرسل حوالي مئتي إمام، تليه الجزائر بنحو مئة إمام، ثم تركيا.
قانون فصل الكنيسة عن الدولة صدر في ظروف مغايرة لواقع اليوم، حيث لم يكن المسلمون يشكلون كتلة كبيرة
وفي الوقت الذي يبالغ فيه البعض في الحديث عن مخاطر التطرف أو التشدد لدى بعض هؤلاء الأئمة، يرى آخرون أن تلك المخاطر تظل مجرد وهم لا يسنده الواقع، بل يتم التلويح بها لأهداف تتجاوز تنظيم وضعية الإسلام داخل فرنسا، مثل التضييق على المسلمين وتشجيع نزعة الإسلاموفوبيا وخدمة الأجندة السياسية لليمين المتطرف.
فالواقع أن هؤلاء الأئمة يتم الاتفاق حول أسمائهم وهوياتهم شهرا أو أكثر قبل شهر رمضان، حيث تتلقى وزارة الداخلية الفرنسية لائحة بأسمائهم من الجهات الرسمية في البلد المرسل، كما هو الحال بالنسبة للمغرب الذي تتكلف فيه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بوضع اللائحة الخاصة بهؤلاء الأئمة وفق معايير محددة ومضبوطة، إذ يتم اختيارهم بناء على المعرفة الدقيقة بمواقفهم المعتدلة وإعطائهم توجيهات صارمة حول تحركاتهم وخطاباتهم الدينية.
كما أن هؤلاء الأئمة لا يتجاوز دورهم المساجد التي يرسلون إليها للوعظ والخطابة، وتمنح لهم تأشيرات محدودة المدة تنتهي بنهاية شهر رمضان. ولكن النقاش الذي عاد اليوم حول الموضوع جاء في سياق فرنسي خاص. فقبل فترة طويلة فتح النقاش حول قانون الفصل بين الكنيسة والدولة الشهير الصادر عام 1905، الذي يجرد الدولة الفرنسية من أي مسؤولية على الأديان الموجودة في البلاد ويلزمها باتخاذ موقف الحياد من المؤسسات الدينية من أي نوع.
ويقول دعاة مراجعة هذا القانون إنه صدر في ظروف مغايرة بشكل كبير للواقع الذي تعيشه فرنسا اليوم، حيث لم يكن المسلمون يشكلون كتلة كبيرة كما هو حاصل حاليا، ما يستدعي مراجعته بحيث يأخذ هذه التحولات في المجال الديني بعين الاعتبار.
يضاف إلى كل ذلك من المشاكل والأزمات، إدراك الحكومة الفرنسية الحالية بفشل النموذج الذي تم وضعه في عهد حكومة نيكولاي ساركوزي، فشلا ذريعا، والذي تمثل آنذاك في إنشاء المجلس الأعلى للديانة الإسلامية، وهو ما صرح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أزيد من شهر، حين دعا إلى إعادة النظر في واقع الديانة الإسلامية في البلاد بشكل جذري، في ضوء التحولات الكبرى المتمثلة في بروز ظاهرة العنف الديني والإرهاب باسم الإسلام.