مقعد في العتمة: النظام الجزائري إذ يولد في قاعة سينما
عملت السلطة على فصل الأفراد ومنع تشكل أي تجمع أو الانتماء إليه، هكذا أحدث منع تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة وحتى الجمعيات، ثم التضييق عليها في ما بعد.
في نهاية الشهر السابع من سنة 1963، أي بعد عام واحد من الاستقلال، اجتمع تحت رعاية قيادة أركان الجيش التي كان على رأسها هواري بومدين، ثلاثمئة عضو من حزب جبهة التحرير الوطني في قاعة السينما ماجيستيك (قاعة الأطلس الآن) بحي باب الوادي بالجزائر العاصمة، ليكتبوا أوّل دستور للجزائر المستقلة، عُرض هذا الدستور على المجلس الوطني وتمّت المصادقة عليه بعد شهر، وعلى إثر هذه الفضيحة السياسية قَدّم فرحات عبّاس، الرجل المتمرّس في السياسة والذي كان يرأس المجلس الوطني، استقالته مرددا جملته الشهيرة “الدستور ليس بغيا كي يعهر في قاعة سينما!”.
وفي الحادي عشر من سبتمبر اجتمع للمرة الثانية أعضاء جبهة التحرير الوطني في نفس القاعة ليختاروا أحمد بن بلّة مرشحا وحيدا لرئاسة الجمهوريّة، وبعدها بأربعة أيّام أصبح فعليا أوّل رئيس للجمهورية الجزائريّة.
ليس الغريب ربّما أن تكون أهمّ محطّتين في تأسيس أيّ نظام سياسي وهما كتابة الدستور واختيار رئيس للجمهورية قد حدثتا في الجزائر في قاعة سينما! لكنّ الأغرب هو أنّ هذا النظام الذي وُلد في قاعة سينما، لن يبرحها أبدا!
يمكننا، إذا أردنا فهم هذا النظام، أن نتساءل مثلا عن وعي الرجال الذين كوّنوا نواته، بقراءة سيرهم الذاتية والسير التي كُتبت حولهم، غير أنّ هذه الأخيرة تبدو فقيرة وغير علمية في الكثير من الأحيان، متضاربة وشعبية في بعضها الآخر، كما أنّ أيّ قراءة تحاول إخضاع تاريخ هذا النظام الطويل من التململ والأهواء الفردية والتجريبية والتردّد، لنظريات علمية ستبوء ولا شكّ بالفشل، هاهي ذي إذن مشكلة أساسية أمام تطبيقات العلوم الإنسانية والاجتماعية في بيئة لا تسير حتما وفق قوانين نعرفها أو نستطيع استخلاصها. وإلى أن نجد بدائل عن هذا النظام، فإنّه من الحريّ بنا أن نجد بدائل أخرى لفهمه.
لقد استعار النظام الجزائري كلّ تقنيات السينما كي يحكم، عقب الاستقلال، تسعة ملايين من المشرّدين والمرضى والمهجّرين وضحايا الحرب، الذين كان كفاحهم أشبه بفيلم سينمائي ينتصر في نهايته ذو الحقّ الفقير والضعيف على خصمه الظّالم ذي العدّة والعتاد.
أدخل النظام إذا التسعة ملايين جزائري إلى قاعة سينما كبيرة، لا مانع من أن يكون اسمها هذه المرة “سينما الجزائر”، وبدأ في فرض قوانين العرض:
تنبيه
“إنّ ما يحصل داخل القاعة ليس بالضرورة حقيقيا، ولكن الجمهور مطالب رغم ذلك بتصديق كل شيء والانفعال له”.
العتمة
لقد حرص النظام على زرع العتمات في كلّ شيء، من تاريخ الثورة إلى أبسط تفاصيل تسيير الشأن العام، وقد يكون هذا راجعا إلى ما ورثه مؤسسو الدولة الجزائرية بعد الاستقلال من كفاحهم ضدّ النظام الاستعماري الفرنسي.
لقد ورثوا تحديدا الرغبة في الخروج عن النظام والنزوع إلى العمل السري، وهذا عكس ما تتطلبه الدّولة الحديثة، وإنّه هاهنا، في نقطة الانطلاق هذه، تكمن أحد أسباب فشل الجزائر اليوم.
وفي مقابل هذه العتمة فرض القائمون على العرض، كما هو معمول به، مصدرا واحدا للصوت والصورة “البروباغندا الرسمية”. اختصر المواطنون خلالها إلى مجرّد أوعية فارغة ومواضيع مستقبلية لدعاياتهم، متفرجين ممنوعين من المشاركة ومن التعبير عن آرائهم إلاّ همسا، ولأنّهم يقبعون في الجزء المظلم من الصّالة فإنّهم غير مرئيين (هل تجدر الإشارة هنا إلى أنّنا لم نراكم أبدا دراسات علميّة حول هذا المجتمع وحول تاريخه، إنّه غير مرئي حتّى عبر مجهر علوم الإحصاء والعلوم الإنسانية والاجتماعية)، لهذا كان من السهل تناسيهم أو معاملتهم ككتلة واحدة، غافلين عما قد يحدث داخلها من طفرات، لقد تغيّرت بمرور الوقت هذه الكتلة وعجزوا عن تمييزها أو التعامل معها، وقد بلغ تردّدهم أن حاولوا إدخال بعض العروض الكوميدية، من النّوع الذي لا معنى ولا شكل له.
إنّ العتمة والانقطاع عن العالم بالنسبة للسلطة السياسية في الجزائر هما رهان وجود بدأ يزول مع الانفتاح الذي أجبرَ الجميع على الانضواء تحته، إلا أنّ هناك الكثيرين ممن أخذوا في الارتطام بكل شيء والرفس واللعن جراء العمى الذي أصابهم، ذلك العمى الذي يسببه الضوء الطبيعيّ بعد أن اعتادت الأعين على عتمة السينما!