اللهم إني صائم
في الشهر الفضيل، لا تستطيع إلا أن تضبط أعصابك على درجة الصفر؛ ترخي حواسك وتودعها ثلاجة الموتى، ليس مهمّا أن تقاوم الجوع والعطش أو حرارة الطقس، أو الحنين إلى سيجارة بائسة توهم نفسك من خلالها بأنك قادرٌ على مقاومة أي انفعال أو إغراء.. لأن هناك دائما قبل مدفع الإفطار ما هو أقسى وأمَرّ.
مجرّد الجلوس ولو لساعة في نهار رمضان أمام مواقع التواصل الاجتماعي، كفيلٌ بأن يفسد صومك، إن لم يفقدك كل اتزانك فتهذي من هول ما تقرأ أو تطالع.. وكأن الغالبية تحوّلت فجأة إلى “مشايخ”، لتنهال عليك بالنصائح وتمنحك الدعوات والأمنيات التي توهمك من فائض وعظها بأنك تعيش وسط “الصحابة” الأجلاء والأخيار، بينما هناك على بعد خطوات في الشارع، ينتشر فقر الاتعاظ إلى الدرجة التي تشعر فيها وكأنك ولدت وسط كفار قريش و”تبت يدا أبي لهب”!
رسائل لا حصر لها يقتحم بها “كل من هبَّ ودبَّ” خصوصيتك دون استئذان، ومعظمها ينتهي بعبارة “أرسلها لكل من عندك حتى ولو كنت أنا منهم” ليثور السؤال “اللوذعي” في الزمان “البرطعي”؛ لماذا أعيدها لك وقد جاءت من عندك بالأساس
وهكذا كتب آخرٌ -دون أن يدري- ناقلا عن “أهطل” قوله “يا عباد الله.. أكثروا من الصيام في شهر رمضان” لتضرب كفَّا بكفٍّ، وكأنه ما ينقصنا إلا الدعوة إلى الصيام ثلاث مرات في اليوم. هذا غير تلك التي تمشي في النهار بكامل تبرجها وهي ترتدي الميكروجيب؛ وتتعطر ببارفان يضرب آخر الشارع، ولما اقترب منها أحدهم ناصحا بأن هذا حرام، وتساءل: لماذا تفعلين ذلك؟ أجابت “عليّ كفارة.. والشيخ قال لي لازم تفطري 60 مسكينا”.
يذكرني ذلك بالواقعة الساخرة والسؤال الذي وُجِّه إلى أحد المشايخ “المودرن” عن أحب الساعات لديه؛ فتنهد قليلا وبكى حتى ابتلت لحيته؛ وبدلا من أن يشير إلى ساعة “الفَسَق” على رأي داعية مصر التاريخي، عادل إمام، في إحدى مسرحياته، هتف “مولانا” بشدة “إنها الروليكس يا ولدي”.. وأخذ يكررها حتى ظننت أنه الوكيل الحصري لها.
في مكتب المرور قبل أيام، جلست أنتظر انتهاء تجديد أوراق نقل وترخيص سيارتي، وبينما أنا جالس بالكاد على حافة مقعد اتقاء لحرارة الشمس، فاجأني شاب يطفح تذمرا وسخطا على كل شيء بطلب الجلوس إلى جواري بطريقة آمرة وغير مهذبة، كظمت غيظي وأنا أفسح له المكان الضيق واكتفيت بالقول “لِمَ الانفعال.. اهدأ ولا تُضع صيامك؟”. فأجابني ساخرا “أنا أصلا فاطر”. ضحكت وقلت ببلاهة “كمان؟ تقبّل الله منّا ومنكم”.