هولندا في سابقة أوروبية لتبرئة المسلمين من معاداة السامية

السابقة الهولندية في التاريخ الثقافي المعاصر لأوروبا تكسر تابو عقدة الذنب التاريخية هناك، وتؤسس لمواجهة حقيقية مع الموروث القديم وعقدة النازي.

الاثنين 2018/05/28
النسخة الهولندية الساخرة للأغنية التي احتج عليها السفير الإسرائيلي

هولندا أصبحت تواجه فرنسا بقوة وليس على استحياء، لن يكون ذلك في نهائي البطولة الأوروبية لكرة القدم وسط أضواء الملاعب، إنما هي مواجهة رمزية لكسر سيطرة مراكز الثقافة الأوروبية الكلاسيكية ممثلة في فرنسا، في مقابل ارتفاع صوت الدول الأقل حضورا في التاريخ الثقافي لأوروبا ممثلة في هولندا.

لم تكد تمر فترة قصيرة على ظهور بيان “معاداة السامية الجديدة” من صحيفة لوفيغارو الفرنسية، لتخرج في المقابل فنانة هولندية على شاشة التلفزيون الرسمي لبلادها، فتقدم محاكاة ساخرة لأغنية إسرائيلية فازت في مسابقة “يوروفيجين” الشهيرة لعام 2018، تسخر فيها من الممارسات العنصرية ونقل السفارة الأميركية للقدس واستهداف المتظاهرين الفلسطينيين، على الإيقاع نفسه للأغنية مع تغيير كلماتها.

وحين احتج السفير الإسرائيلي على ما فعلته مقدمة البرامج الهولندية الشهيرة سانا ووليس دي، في أغنية “توي” التي فازت بها المشاركة الإسرائيلية نيتع برزيلاي مبكرا هذا الشهر، متهما إياها بمعاداة السامية واستخدام بعض الرموز التي ارتبطت تاريخيا بالعداء لليهود، ردت هيئة البث الهولندية ردا حاسما بأن الأغنية تتعلق بالممارسات الإسرائيلية في فلسطين، ولا تستهدف الجاليات اليهودية في أوروبا، وأن عرض الأغنية الساخرة كان في سياق التزامن مع فوز الأغنية الإسرائيلية في مقابل مواجهات غزة.

ماكينة الثقافة التقليدية في أوروبا تعيد إنتاج مفهوم “معاداة السامية” وتريد ربطه بالعرب والتطرف الإسلامي

وتتبدى أهمية الواقعة الهولندية أكثر في الثقافة الأوروبية المعاصرة؛ لأنها تؤسس لنقض واحدة من أهم الأساطير التي تبنتها أوروبا في ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي أن رفض الصهيونية ومقاومتها هما فعلان معاديان للسامية موجهان ضد جاليات اليهود في أوروبا ومساويان للنازية، وهو ما أسس له كتاب سارتر الشهير “تأملات في المسألة اليهودية”، الذي اعتبر أن أعلى درجات الوعي الوجودي عند يهود أوروبا، ستتمثل في الوجود الجماعي المشترك ومشروع توحد يهود أوروبا واحتلالهم لفلسطين.

والحقيقة أن هذه الواقعة الأوروبية التي تشبه مواجهة غير معلنة بين سطوة مركز الثقافة الأوروبي الكلاسيكي في فرنسا، وتمرد الهامش الأوروبي عليه في هولندا، يجب أن تحظى بكل الاهتمام العربي، فهذه فرصة من داخل السياق الأوروبي نفسه لتوضيح ضرورة الفصل بين الكراهية والعداء وفق الهوية كما كان يحدث للجاليات أو الأقليات اليهودية في أوروبا القديمة والحديثة في ما عرف بـ”بمعاداة السامية”، وبين رفض الممارسات الصهيونية ومقاومتها والتصدي لها على أسس سياسية واقعية بحتة.

هنا تجب التفرقة بين العداء على أساس الهوية كفعل عنصري مارسه الأوروبيون قديما والنازيون تجاه يهود أوروبا، والعداء على أساس الممارسات السياسية كحق أصيل ورد فعل طبيعي يمارسه العرب والفلسطينيون والأوروبيون وغيرهم أيضا ضد الصهيونية وإسرائيل.

لدينا معركة ثقافية شرسة في المحافل الأوروبية للفصل بين “معاداة السامية” كعقدة نفسية جماعية في الضمير الأوروبي، إزاء ممارسات العصور الوسطى في حق الأقليات اليهودية هناك، وما فعله معهم هتلر في خضم الحرب العالمية الثانية حديثا، وبين رفض الصهيونية وحق التصدي لها تأسيسا على ما تمارسه من انتهاكات في حق شعب أعزل، يبحث عن حقه في الحياة والوجود.

هذه هي معركة العرب الثقافية الأبرز في مواجهة اللوبي الصهيوني في أوروبا ومواجهة الصورة النمطية التي قدمها الاستشراق والإعلام الغربي للإنسان العربي كشخص متخلف لا يملك الخطاب القادر على مواجهة الآخر بهدوء ومنطق وحكمة.

أوروبا الآن في مفترق طرق، نظرت بإعجاب لثورات ما بات يعرف بـ“الربيع العربي”، والتي اندلعت في بداية هذا العقد، والدليل هو أن بعضهم منحها اسما من الذاكرة الأوروبية “الربيع العربي” محاكاة لربيع الثورات الأوروبية في القرن التاسع عشر، والتي بدأت بالثورة الفرنسية. وكاد نموذج ثورات الميادين (أسوة بميدان التحرير في القاهرة) أن يتحول إلى أيقونة عالمية جديدة لولا تشابك المصالح المحلية والدولية، وعدم ظهور دولة مركز انتصرت فيها الثورة بالكامل لتصبح النموذج الحضاري مُلهب الحماس.

وفي مفترق الطرق نفسه تقبع ماكينة الثقافة التقليدية في أوروبا/ فرنسا، التي تعيد إنتاج مفهوم “معاداة السامية” وتريد ربطه بالعرب والتطرف الإسلامي الذي يستند إلى آيات قرآنية.

تجب التفرقة بين العداء على أساس الهوية كفعل عنصري مارسه الأوروبيون قديما والنازيون تجاه يهود أوروبا، والعداء على أساس الممارسات السياسية كحق أصيل

علينا أن ننقد خطاب “معاداة السامية الجديدة” في فرنسا، ونؤكد على حق رفض الممارسات الداعمة للصهيونية في أوروبا، وأن مثل هذا الخطاب يروج بالأحرى لصورة نمطية جديدة عن العرب ولا يروج حقيقة لـ”معاداة سامية جديدة”، وأن البيان الفرنسي يؤسس لحالة من الكراهية استنادا على الهوية ضد المسلمين. وفق البيان، على كل مسلم يعيش في أوروبا أن يبادر بنفي تهمة التربص بيهود أوروبا عن نفسه، فالبيان يقول إن المسلم بطبيعته الدينية معاد للسامي/ اليهودي، وكأنه يفرز على الهوية ويربط الهوية الإسلامية والوجود العربي في أوروبا بالكراهية التي تحث على قتل اليهود في أوروبا وكل مكان آخر.

ولكن خطاب رفض الصهيونية والعداء للممارسات الإسرائيلية الواضح وضوح الشمس، والقادم من هولندا، هو أبلغ رد على الخطاب الفرنسي، فهو يمارس حق السخرية والرفض والعداء تجاه ممثلة للثقافة والفنون الإسرائيلية على أرض أوروبا، هو يفصل بوضوح بين الممارسات التاريخية تجاه يهود أوروبا، وبين حق الأوروبيين المعاصرين في نقد ومعارضة ورفض التجبر والبطش الصهيوني على أرض فلسطين.

بكل وضوح يقدم الخطاب الهولندي الرد على الثقافة المتغطرسة، أسيرة ماضي التاريخ النازي والأوروبي القديم. يرفض الخطاب الهولندي الممارسات الصهيونية بوضوح وإجراءات نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ويبرز جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية، وعمليات استهداف المتظاهرين في غزة.

السابقة الهولندية في التاريخ الثقافي المعاصر لأوروبا تكسر تابو عقدة الذنب التاريخية هناك، وتؤسس لمواجهة حقيقية مع الموروث القديم وعقدة النازي.

دور الثقافة العربية ونخبتها العارفة التي تتحمل مسؤولية المواجهة في ظل دورة الضعف الحضاري التي تمر بها بلاد العرب، هو التأكيد على مشروعية العداء وفق الممارسات والسياسات الواقعية التي تمثلها الصهيونية وكيانها السياسي، ورفض العداء وفق الهوية تجاه اليهود غير الصهاينة في أوروبا وباقي دول العالم.

هذا محور مهم للثقافة العربية العارفة، يجب أن تلتفت لأهميته في الفترة القادمة، وتتحرك في اتجاه الفعل والمبادرة والبناء والتأسيس له، بالموازاة لاتجاه رد الفعل والتفكيك والنقض لخطاب إسقاط عقد الذنب الأوروبية التاريخية.. هذا الخطاب القادم من فرنسا على العرب الرافضين للممارسات العنصرية الصهيونية من إسرائيل.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: