كيف تكون مسلما ودنيويا منشرحا في أميركا
“الفردية الدينية”.. حالة تجعل من التدين مسألة شخصية بحتة، والمسك بمفردات الحداثة يجعل مسلمي أميركا “غير مرئيين”.
كيف يمكن أن يعيش الشاب الأميركي المسلم إيمانه في محيط شبه معاد للدين الذي يعتنقه ويمارس طقوسه؟
في كتابه “البقاء في الحلال/حياة الذكور المراهقين المسلمين اليومية في أميركا “، يتحرى عالم الاجتماع الأميركي جون أوبراين الطرق المتعددة التي يسلكها المراهقون المسلمون في الولايات المتحدة الأميركية كي يتمكنوا من إيجاد توافق بين معتقداتهم الدينية ومتطلبات سنهم وانتمائهم إلى الأمة الأميركية.
في زمن أميركي وعالمي مشبع بالأسئلة حول التطرف الديني الإسلامي، والذي يبدو فيه الإسلام منذ سنوات كظاهرة مخيفة مهددة، فضل عالم الاجتماع وأستاذ جامعة نيويورك بأبوظبي تسليط الضوء على المسلمين “غير المرئيين” الذين يعيشون في أميركا والشبان منهم على وجه الخصوص.
معادلة تبدو صعبة لكنها ممكنة، تلك التي حققتها فئة عريضة من الشبان المسلمين في أميركا، وهي محاكاة العصر والإمساك بكل مفردات الحداثة ونمط العيش الذي يمارسه كل أبناء جيلهم من غير المسلمين، مع الإبقاء على الاحترام أو حتى الالتزام التام بسلوك المسلم العادي المنضبط، وذلك دون صدام مع أي جهة ودون الظهور بمظهر المختلف والمثير للريبة داخل مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. وقد حرص عالم الاجتماع الأميركي جون أوبراين على تقصي هذا الأمر في كتاب يبرز مدى أهمية تحقيق هذه المعادلة في عصر الإسلاموفوبيا.
ووصل إلى نتيجة مفادها أن هؤلاء الشبان يدحضون من خلال مواقفهم وسلوكياتهم وتصوراتهم لذواتهم وللمجتمع الذي يحيط بهم فكرة صدام الحضارات، ذلك الهاجس الذي بات مسيطرا على عقول الكثير من الناس منذ اعتداءات 11 سبتمبر 2001، كما يفندون مقولة أن الإسلام لا يتوافق مع أسلوب الحياة الغربية. ولا يؤمنون بذلك فحسب، بل يبذلون كل ما في وسعهم في حياتهم اليومية ليتجاوزوا العوائق وليواجهوا التحديات الدينية والاجتماعية التي تعترضهم في مسعاهم ليكونوا مسلمين جيدين ومراهقين أميركيين عاديين.
وبدل أن يعيشوا وضعهم كمأزق يجدون أنفسهم مجبرين أمامه على اختيار طريق ما، ينخرط هؤلاء الشبان في متطلبات حياة من هم في سنهم، ويدخلون في الممارسات الثقافية نفسها والخطابات الملازمة لنمط حياة مراهق حديث يعيش في المدينة بما في ذلك الهيب هوب ولباس الموضة ومصاحبة الفتيات ولكن مع الإبقاء على هوية إثنية ودينية مستترة.
وفي الوقت نفسه يؤدون كل الطقوس الإسلامية كالصلوات الخمس وصوم رمضان والامتناع عن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج والابتعاد عن تناول الكحول والمخدرات لكيلا يخيبون ظن أوليائهم وأفراد جماعتهم الدينية. وهذا ما يريد أن يكون عليه المراهق المسلم في أميركا ولكن ليس في كل مكان وزمان.
يحاول عالم الاجتماع جون أوبراين التفكير في الورطة الثقافية / النفسية التي يواجهها الشاب المسلم الأميركي: كيف يمكن أن يكون مسلما يحترم كل التزاماته الدينية دون أن يفقد تلك البهجة العفوية التي يوليها كل مراهق أميركي اهتماما كبيرا ويمنحها قيمة عظمى؟
لا يبحث المراهق المسلم عن الظهور بهوية اجتماعية متميزة في كل مكان وزمان وإنما يبذل قصارى جهده لإيجاد توافق بين الانتماء إلى الإسلام والعيش بين الأنداد في المدرسة وفي الفضاء العمومي بشكل عام. وقد يجد نفسه أحيانا مطالبا بتجاوز تناقضات حادة ومؤلمة. وهو ما يجعله كباقي المراهقين، يبتدع هوية معقدة مزدوجة ومتناسقة يمكن استعمال مقولة “المنزلة بين المنزلتين” لوصفها.
ويضرب الكاتب مثلا بموسيقى الهيب هوب التي يمكن أن يسمح الاستمتاع بها أو ممارستها ببناء مرجعية وعالم مشتركيْن يتجاوز المراهقون عن طريقهما الاختلافات والانقسامات بسبب الأصل أو الإثنية أو الديانة.
ولكي لا يصدم المراهقون المسلمون أبناء عقيدتهم الملتزمين حرفيا بالعقيدة الإسلامية، يتبنون “استماعا إسلاميا” متمثلا في هيب-هوب واع ومسؤول وليس ذلك الذي يمجد المخدرات والعنف والجنس.
ويمنح هذا الانخراط في هذا النوع من الموسيقى الشبابية فرصة التلاقي مع الشبيبة الأميركية غير المسلمة، وهو ما يؤدي إلى اندماج أوسع في المدينة للشبان المسلمين، خارج العائلة والجماعة الدينية. يمر بحثهم عن “الاندماج المرح” عبر رغبتهم في إظهار معرفتهم بالرصيد الموسيقي غير الإسلامي والشغف به ولكن مع امتلاكه بطريقة “حلال”.
الغزل الحلال
أما في ما يتعلق بالعلاقات الغرامية فيحدد الباحث نوعين من التعارف: الأول يهدف إلى إبقاء العلاقة في إطار إسلامي ويضع حدودا واضحة للتواصل الجسدي الحميمي، ويجعل العلاقة تنمو في صورة حب أفلاطوني قوي يجمع بين العواطف الرومانسية والولاءات الدينية باعتبار أن العلاقات الجنسية محرمة دينيا خارج الزواج، وهي علاقة لا تدوم طويلا حسب دراسة الباحث.
أما في العلاقة الثانية وحتى إن لم يتنازل فيها الشبان المسلمون عن إسلاميتهم فهم لا يبحثون عن تجذير علاقتهم العاطفية الفعلية في إطار ديني وهو ما يجعل تلك العلاقة دائمة في أغلب الأحيان وغير مقلقة كثيرا.
وعموما يعتقد جون أوبراين -كزملائه علماء الاجتماع- بوجود ظاهرة جديدة هي “الفردية الدينية” حتى بين الشبان المسلمين. وتتميز بفردية الممارسة الدينية بدل الممارسة الجماعية الموحدة والالتزام الديني الحر بدل الاعتقاد المتوارث المفروض.
توافقات ذكية
يتناول الكاتب أيضا طريقة المراهق في تقديم وتعريف نفسه كمسلم في مناخ يحتمل أن يكون متحرشا ضده وكيف يسعى جاهدا لتكون هويته المختارة والموروثة غير مرئية.
يتردد هؤلاء الشبان في إظهار هويتهم الإسلامية عن طريق اللباس أو الكلام في الفضاءات العامة، وذلك كي يتجنبوا التعليقات المتحاملة والمضايقات المحتملة وخاصة من الغرباء. وهكذا يقومون بتعديلات استراتيجية في تقديم أنفسهم ليتوافق حضورهم مع الثقافة المهيمنة، ولكن دون إحداث القطيعة مع عائلاتهم وجماعتهم الإثنية.
ويعملون كل ما من شأنه أن يجعل المجتمع الأميركي ينظر إليهم ويقيمهم بناء على قدراتهم ومهاراتهم الفردية كالبراعة في لعب كرة السلة مثلا أو التفوق على لوحة التزحلق المائي وليس بناء على انتمائهم الديني.
أسلمة أساليب الحياة مع الحرص على عدم تناقضها مع القيم الثقافية السائدة هي إشكالية مطروحة بطريقة أو بأخرى
يستنتج جون أوبراين أن الشبان المسلمين الأميركيين يريدون أن يكونوا شبانا أميركيين عاديين يشاركون اهتمامات باقي شبان جيلهم: الشغف بالموسيقى، الانشراح، إقامة علاقات غرامية، الدفاع عن استقلاليتهم، الانتقال من نشاط ديني إلى آخر، وإعادة اختراع الممارسة الدينية لتتناسب مع التطورات الحاصلة، مع الوفاء لما يعتبره أولياؤهم وجماعتهم الدينية قواعد وضوابط. ما يضمن سعادتهم هو تطوير أسلوب حياة جديد يختلف عن أسلوب آبائهم وأقرانهم غير المسلمين، مع العمل على أن يكون هذا الاختلاف مقبولا من المجموعتين المذكورتين.
وفي الحقيقة فـإن مسألة “أسلمة أساليب الحياة مع الحرص على عدم تناقضها مع القيم الثقافية السائدة” هي إشكالية مطروحة بطريقة أو بأخرى، ليس على الشبان المسلمين الأميركيين فحسب بل على المسلمين في أوروبا. وبمعنى من المعاني حتى في بلدان الإسلام يحاول المسلمون الإبقاء على توازن ما بين “الأصالة والمعاصرة”، كما يقولون.
وربما أهم تجربة يقدمها الكتاب هي تلك المتعلقة ببناء الذات المعقد، الحركي والتطوري في الولايات المتحدة الأميركية المعاصرة؛ إذ يبين الكاتب جون أوبراين أن الهويات الثقافية تتبلور في تفاعل مع الأقران والأغلبية المجتمعية. ويخلق كل هذا ممارسات وهويات مختلطة هجينة وديناميكية تمنح الفرد دورا مركزيا في نحت ذاته وتحديدها.
أما التساؤل الكبير الذي قد يخرج به القارئ فيتعلق بذلك الاهتمام الشديد الذي تمنحه الدراسة للعامل الديني في بناء الذات على حساب التحليلات السوسيولوجية التي تركز في الغالب على الجنس والعائلة والطبقة والانتماء العرقي.