في الصحراء المغربية: لا حرب في الأفق ولا سلام أيضا
مطلبية المغرب واضحة للغاية وهامش التنازلات الذي أبدته الرباط في سبيل إغلاق هذا الملف معتبر جدا ولا يمكن لأحد، أيا كان موقفه من المغرب، أن ينكر هذا الأمر.
جرت العادة السياسية والعسكرية أن تهدد الدولة المركزية الإقليم الانفصالي بالتدخل المباشر على غرار ما حصل في كردستان العراق ويحصل في سوريا وإقليم كاتالونيا الإسباني، فيما يطالب الانفصاليون القوى الإقليمية والدولية بضمان حقوقهم الثقافية واللغوية والسياسية، أمّا أن يحصل العكس، فلا غرو بأننا حيال ظاهرة أقرب ما يكون إلى الأقليات الغالبة أو القاهرة.
فأن تجري حركة انفصالية مثل “جبهة البوليساريو” استعراضا عسكريا كبيرا، وتستخدم فيه أكثر من تخصص حربي، وتظهر للرأي العام العالمي أكثر أسلحتها تطورا، بل وتُنزّل عرضها المسلح ضمن الذكرى الخامسة والأربعين لاندلاع ما تسميه بـ“الكفاح المسلّح”، فهذا دليل على أنّ الجبهة أنأى ما يكون عن التسوية السياسية المطلوبة، وأبعد ما يكون أيضا من تسهيل عمل المبعوث الأممي الجديد للصحراء المغربية المستشار هورست كولر.
في سياق تأصيله للأقليات المتمردة، توقّف الباحث الكندي ويل كيميليكا ضمن مفهوم الحركات الانفصالية ذات الطابع الإثني التي تستوطن إقليما خاصا بها وتحظى بتأييد دولة جارة تتقاسم مع الحركة الانفصالية ذات المياسم الإثنية، بيد أنّ حالة البوليساريو تفرض على الباحثين ضمن مسألة الأقليات والحركات الانفصالية تأصيلا علميا جديدا متصلا بوجود دولة تساند الحركة الانفصالية لا بغرض إثني، وإنما لهدف ديمومة الاستنزاف والتشرذم الجغرافي، والاستمرار في حالة اللاحرب واللاسلم.
لا أولويات صحراوية ضمن أجندا البوليساريو، ولا حلول وسطى مع المغرب ضمن خطاب البوليساريو، فقط هو الوقوف عند أعلى شجرة العناد الاستراتيجي
التصعيد العسكري لجبهة البوليساريو، يقرأ وفق تقديرنا ضمن ثلاثة سياقات كبرى. السياق الأول متمثل في الرد العملياتي على القرار الدولي الأخير رقم 2414 والذي تم اعتماده في السابع والعشرين من أبريل الماضي، والذي دعا الطرفين إلى اعتماد حلّ توافقي وواقعي ودائم في الصحراء المغربية، الأمر الذي قوبل بكثير من التململ لدى قيادات جبهة البوليساريو.
السياق الثاني متمثل في الانطباع الذي بات يتجسد يقينا لدى البوليساريو بأن المنتظم الدولي أضعف من أن يتدخل في سياق إشكال حدودي في المنطقة المغاربية، حيث كانت تجربة الكركرات في العام الماضي عينة ميدانية للبوليساريو مفادها أن قوّة الأمر الواقع قد تكون أشد من نصوص القرارات الدولية ومن توصيات المبعوث الأممي.
أما السياق الثالث فهو حالة الاحتباس السياسي التي تمر بها الوساطة الأممية في الصحراء المغربيّة، ذلك أن كثرة التدخلات الإقليمية في الملفّ وتشابك القضية بين مدخلاتها ومخرجاتها واستمراريتها التاريخية حوّلتها من مفهوم “الأزمة” إلى “المحنة المستعصية” في المغرب العربي.
لم يكن تجنب الوسيط الدولي الجديد هورست كولر تحديد تاريخ مضبوط لإعلان خطته للسلام في الصحراء المغربية مفاجئا، فجل الوسطاء كانوا مبعوثين أمميين بلا وساطات حقيقية وبلا خطة عمل، وكلهم هالتهم الرمال السياسية المتحركة في جرح غائر يمنع المغرب من المصالحة مع الجغرافيا، والمغرب العربي من المصالحة مع التاريخ.
برهنت جبهة البوليساريو طيلة السنوات القليلة الماضية على الأقل، على عدم جدية في التوافق على حل وسط يحمي سيادة المغرب ويؤمّن الحقوق السياسية والثقافية واللغوية للصحراويين، فجل الاقتراحات المقدمة من طرفها هي حلول على حساب المغرب سيادة وجغرافيا، فلا توجد دولة تفاوض على أرضها كما لا توجد دولة تقبل بقضم جغرافي لسيادتها، وما اجتراح العقل السياسي الغربي لفكرة الفيدرالية إلا في سبيل تأمين معادلة “السيادة والحقوق السياسية والثقافية واللغوية للهويات الإثنية”.
العرض العسكري في المنطقة الحدودية المتنازع عليها يؤكد بأن البوليساريو غير مستعدة للسلام وللتسوية، وهي بذلك تراهن على استمرارية حالة النزيف المتواصل
عند الحديث عن جبهة البوليساريو وداعميها في منطقة المغرب العربي، لا يكون السؤال ماذا تريد الجبهة الانفصالية وممولوها، وإنما السؤال المركزي هو ما الذي لا يبتغونه ولا يريدون تحقّقه؟
فجبهة البوليساريو مثلها مثل الجزائر لا تبتغي حكما ذاتيا ضمن الفيدرالية، ولا حكما ذاتيا موسعا قريبا من الكنفيدرالية، ولا تعريفا وتحديدا دقيقا للإنسان الصحراوي الذي يمكنه في حال إجراء استفتاء تقرير مصير أن يشارك فيه، ولا عودة طوعية للصحراء المغربية للسيادة المغربية، ولا مغربا موحدا وسيدا على أرضه؟ في المقابل فإن مطلبية المغرب واضحة للغاية وهامش التنازلات الذي أبدته الرباط في سبيل إغلاق هذا الملف معتبر جدا ولا يمكن لأحد، أيا كان موقفه من المغرب، أن ينكر هذا الأمر.
تقديرنا، أن العرض العسكري في المنطقة الحدودية المتنازع عليها، ليس استعدادا للحرب المباشرة مع المغرب، فلا البوليساريو تقدر على خوض صراع عسكري مع الرباط ولا الأخيرة تريد مكاسرة حربية مجهولة الأفق والتداعيات، بقدر ما هو تأكيد بأن البوليساريو غير مستعدة للسلام وللتسوية، وهي بذلك تراهن على استمرارية حالة النزيف المتواصل والجرح المفتوح للمغرب في سيادته وجغرافيته وثرواته.
لا أولويات صحراوية ضمن أجندا البوليساريو، ولا حلول وسطى مع المغرب ضمن خطاب البوليساريو، فقط هو الوقوف عند أعلى شجرة العناد الاستراتيجي ووظيفة سياسية من الوكيل لفائدة الأصيل.