المغرب أرض ميعاد الافارقة جنوب الصحراء أم استراحة عابر نحو حلم؟
تحول المغرب في السنوات الأخيرة من محطة عبور نحو الضفة الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط، إلى «ملاذ « لآلاف المهاجرين الافارقة جنوب الصحراء الذين جعلوا من المغرب مستقرهم الأخير، في رحلة البحث عن أرض للحياة والسلام. ملاذ اختياري أم اضطراري أم فقط استراحة عابر نحو أرض الحلم الأول، ماذا يكون؟ ما الذي جعل من المغرب درعا «يحمي» أوروبا من «خطر» تدفق سيل المهاجرين على أرضها؟ وما الذي «أغراهم» بالبقاء في بلد تحلم الأغلبية الساحقة من شبابه بمغادرته؟ 91 في المئة من حاملي الشهادات الدراسية العليا متأهبون للمغادرة مع أول ضربة حظ حسب ما نشرته مؤخرا تقارير إعلامية، وربما مع هذا الرقم يصير الأولى بالتساؤل ما الذي يغري التسعة في المئة الباقية في البقاء، أو بالأحرى ما الذي يجبرهم؟ إنها مفارقة بلد «يصدر» و«يستورد» في الآن نفسه المهاجرين.
الإجراءات الأمنية المشددة جعلت الوصول إلى الضفة الأخرى، حلما في عداد المستحيل بالنسبة لعدد كبير من المهاجرين المنحدرين من افريقيا جنوب الصحراء، وفي أحسن الأحوال أمرا يكلف تحقيقه المرور بمغامرات قد يكون ثمنها موتا محققا في قلب البحر أو معاملات أمنية قاسية على الضفتين. هذا أمر محبط للعديدين الذين عدلوا عن حلمهم.
لكن إلى جانبه ظهر حافز جعل الكثيرين يقولون ولمَ لا يكون المغرب مستقرنا الأخير في هذه الرحلة؟ ومنهم من نجح في الاندماج ومن ما زال يبحث عن طريقه إلى ذلك ومن أجل حلم المغادرة إلى حين.
«أتيت من السنغال وأول هجرة لي نحو المغرب كانت سنة 2011. تركت عائلتي هناك، زوجتي وثلاثة أطفال والرابع في الطريق. أمكث هنا ستة أو ثمانية أشهر ثم أعود لبلدي وهكذا دواليك « يحكي عمر ويضيف أنه جاب بلدانا كثيرة في آسيا وافريقيا وأوروبا واختار في الأخير أن يستقر في المغرب في انتظار تسوية وضعيته القانونية، فقد قدم طلب الاستفادة من الإقامة مرتين وما زال ينتظر. وهو يعد لوحاته الفنية ذات الألوان الأخاذة وبعض المنحوتات الخشبية التي يعرضها للبيع في شارع محمد الخامس في قلب العاصمة الرباط، يسترسل عمر في حديثه عن مشاكل الاندماج معتبرا أن الأمر ليس مرتبطا بالمغاربة بل هو وضع عام يعانيه المهاجر الافريقي جنوب الصحراء أينما حل وارتحل. «من قبل كنت أعاني من الازعاجات كما يحدث في كل بلدان العالم، وفي المغرب بالطبع هناك من لا يتقبل الاختلاف لأن هناك اختلافا في العقلية والثقافة، غير أنني عموما أشعر أن المغاربة اخوتي فهم يعرفون جيدا السنغاليين ونحن كلنا مسلمون». مضيفا «نعم أنا استطعت الاندماج في المغرب ولدي أصدقاء كثيرون، نتعاون في العمل، العلاقة ليست مثالية لكن بالصبر يمكن توطيدها أكثر، تعرضت لأفعال عنصرية لكن هذا يحدث في كل العالم».
توجه المغرب نحو افريقيا جعل الكثير من المهاجرين، حسب عمر، يشعرون بتغير أفضل في تعامل المغاربة معهم، خاصة مع الاهتمام الذي يوليه الملك إلى هذه القارة وعودة المغرب إلى الاتحاد الافريقي نهاية 2016. غير أن الاندماج ليس بالأمر السهل خاصة بالنسبة للذين لا يجدون أي مشترك هوياتي مع المغاربة سواء ديني أو لغوي أو عرقي أو ثقافي.
أنيل فتاة في السابعة والعشرين من عمرها قدمت من الكاميرون بتشجيع من أختها المقيمة في المغرب آملة في أن تجد في المغرب ملجأ لحلمها، وهو أن تصير لاعبة كرة قدم، هوايتها المفضلة التي مارستها في عدة بلدان افريقية وحملتها معها إلى المغرب. تجلس على طاولة وضعت عليها بعض الهواتف المحمولة المعروضة للبيع، وتقول «قدمت من الكاميرون بشكل قانوني، لما يقارب سنة، أتيت بهدف أن أشارك في فريق لكرة القدم، فأنا شاركت سابقا في مسابقات في غانا ومالي. جئت إلى هذا البلد على أساس أن أعثر على فرصة أكبر لتطوير موهبتي. لكن مشاكل صحية حالت دون ذلك وحينما أتحسن سأجرب حظي من جديد».
الاندماج ليس أمرا بديهيا واللغة أحد مفاتيحه، قد تكون عامل اندماج جزئي أو عامل إقصاء كلي. وأنيل تشعر بأمان مع من يشاركونها اللسان، اللغة الفرنسية. «الاندماج» تردد هذه الكلمة وتصمت برهة «إنه فعلا أمر معقد وفي الغالب تكون لنا مشاكل مع من لا يتحدثون الفرنسية، فقد لاحظت أن الذين يستطيعون الحديث بالفرنسية لهم عقلية أخرى مختلفة، في حين ان من لا يتحدثونها هم أكثر ارتباطا بالثقافة المحلية ويتعبوننا كثيرا بسلوكيات العنصرية، نعيش هذا يوميا حتى في هذا المكان الذي أبيع فيه الهواتف». أنيل قدمت طلب الإقامة منذ عشرة أشهر ولم تحصل على جواب، اتصلوا بها الأسبوع الماضي من ولاية الأمن ذهبت ليطلب منها ملء بعض الملفات من جديد. في حديثها تبدو طموحة لتطوير عملها وخوض استثمارات لو تمت تسوية وضعيتها.
«أنا لست هنا فقط للعبور نحو أوروبا، أريد البقاء في المغرب وإلا لماذا قدمت طلب الحصول على الإقامة؟ وأفضل البقاء هنا على أن أواجه المخاطر في البحر الأبيض المتوسط، ولو أني حصلت على بطاقة الإقامة كنت سأقوم بمشاريع، لأن لدي إمكانية القيام بذلك، إنهم يؤخرونني» تختم كلامها وهي تتمنى أن يصير المغرب فعلا أرض أحلامها.
كان المغرب قد قام سنة 2014 بتسوية الوضعية القانونية لـ 25 ألف مهاجر غير شرعي، ليعلن عن مرحلة ثانية في مسلسل التسوية أطلقها نهاية سنة 2016. هاتان المبادرتان حظيتا بإشادة من الاتحاد الأوروبي وإشادة أممية وفق ما صرح به محمد الصبار، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو هيئة رسمية ترأس لجنة الطعن التي تم إحداثها لاستقبال طلبات الطعن التي قدمها من لم يستفيدوا من التسوية.
وأكد لـ«القدس العربي» أن 92 في المئة من الطلبات التي تم تقديمها في الشطر الأول تم قبولها في حالة استيفاء أصحابها للمعايير التي تم تحديدها وأنه «تم الأخذ بعين الاعتبار مقاربة النوع، فقد تمت تسوية أوضاع غير نظامية لمهاجرات وإن كن لا يتوفرن على كل المعايير». ويصف المبادرة الأولى والثانية بأنها «غير مسبوقة على مستوى العالم العربي والقارة الافريقية» معتبرا أن التجربة المغربية في مجال إدماج المهاجرين قاربت مسألة الهجرة بروح تضامنية وبأنها أول تجربة انطلقت من الجنوب دون استحضار حسابات اقتصادية أو ديموغرافية، يقول الصبار على عكس الدول الغربية التي تعاملت بحس أمني مفرط ومن زاوية تعويض اليد العاملة.
ويحتل السنغاليون الصدارة في قائمة الطلبات لتسوية الوضعية الإدارية حسب ما أعلن عنه الصبار في ندوة أقيمت مؤخرا في مراكش تحت عنوان «آليات الديمقراطية التشاركية في خدمة قضايا الهجرة واللجوء» حيث قال إن المهاجرين القادمين من السنغال يمثلون 25،85 في المئة من الطلبات، يليهم الايفواريون بنسبة 18،4 في المئة ثم الكاميرونيون بنسبة 6،21 في المئة، وذلك من 25573 طلبا تقدم بها المهاجرون في الدفعة الأولى لتسوية الوضعية الإدارية.
الصبار الذي استعرض منجزات سياسة الهجرة الجديدة في المغرب، أعلن أن المدراس المغربية وفرت مقاعد للدراسة لأزيد من 21400 تلميذ من أبناء المهاجرين خلال السنوات الدراسية الممتدة ما بين 2013 و2016 وأنه جرى تمكين الذين تجاوزوا سن التمدرس من برامج التربية غير النظامية، كما تم إدراج المهاجرين ضمن قائمة المستفيدين من نظام المساعدة الطبية وكذا من دورات في التكوين المهني.
«لا يمكن أن يتحقق اندماج حقيقي ما دام هناك مهاجرون أفارقة منحدرون من افريقيا جنوب الصحراء، ينامون في الشوارع، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، كيف لمن يعيش مثل هذه الظروف أن يشعر بالاندماج؟» يقول أونسفور نمبي وهو مدير مجلة تصدر في المغرب تعنى بالشؤون الافريقية، مؤكدا على أن الاندماج مرتبط بضمان القدرة على العيش بشكل يحفظ الكرامة «الحياة كما الآخرين» هذا هو الاندماج في نظره وهو أمر لا يتحقق بين عشية وضحاها بل إنه سيرورة يلعب فيها العمل دورا مهما.
ويؤكد أونسفور الذي عاش في المغرب خمس سنوات قبل انطلاق عملية التسوية الإدارية أن الوضع اختلف بعد التسوية. «أعتقد أن هناك تقدما، نعم هناك تقدما» يقول، لكن هذا التقدم ليس بالضرورة مرتبطا بتحسين ظروف عيش المهاجرين، لكنه مرتبط بمختلف الإمكانيات التي صارت متاحة للمهاجر اليوم، أصبح ممكنا أن يقدم طلبه من أجل عمل وأن يذهب من المغرب ويعود، لبلدان أخرى عبر الطرق الشرعية».
هذا عن الامكانيات التي صارت في متناول المهاجر، أما عن ظروف العيش فيرى أن «المهاجر يعيش شروط غياب العدالة نفسها، قبل التسوية وبعدها»، متحدثا بحسرة عن الحالات المتوترة لمهاجرين يجدون أنفسهم بلا مأوى وترمى أغراضهم في الشارع إذا تأخروا عن أداء الإيجار شهرا أو شهرين.
«لم يتوقفوا عن حلم المغادرة، لهم الرغبة الملحة نفسها في الوصول لأوروبا أمس كما اليوم» يقول أونسفور، لأن معاناة هؤلاء المهاجرين وإن انخفضت بعد عمليات التسوية الإدارية إلا أنهم معرضون للخوف والقلق نفسه، خوف من عدم ضمان حياة كريمة وقلق على مستقبلهم في هذا البلد، وهو أمر في نظره سيعيشونه أيضا في أوروبا لكن «حلم حياة أفضل هناك، يسيطر على أذهانهم ويحفز رغبتهم في البحث عن الملاذ الأخير في أوروبا، لا يستطيعون كبح هاته الرغبة».
وحسب دراسة صادرة عن الأمم المتحدة، اللجنة الاقتصادية لافريقيا، مكتب شمال افريقيا، فإن المغرب أصبح منطقة عبور للمهاجرين القادمين من افريقيا جنوب الصحراء والمتجهين نحو أوروبا منذ التسعينيات من القرن الماضي، كما صار كذلك أرض الملاذ للمهاجرين الذين لا يستطيعون مواصلة رحلتهم نحو القارة الأوروبية. وتقول الدراسة الصادرة سنة 2014 أن التغيرات الجيوسياسية وانعدام الأمن والاستقرار التي شهدتها بعض الدول الافريقية كساحل العاج ونيجيريا، عوامل غيرت ديناميات الهجرة في القارة الافريقية ووجهتها نحو وجهات جديدة منها المغرب العربي.
ومنذ سنة 2000 بدأ عدد متزايد من المهاجرين المنحدرين من افريقيا جنوب الصحراء يختارون المغرب كوجهة أساسية. وتقول الدراسة أن هؤلاء المهاجرين يعملون في ظروف شديدة الهشاشة، عمال بناء وأعوان في مراكز الاتصال، وخدم منازل وأعمال شاقة أخرى، إلا أن المغرب يوفر لحاملي الشهادات، المنحدرين من افريقيا جنوب الصحراء، مثل الأطباء والفنانين والمقاولين والتجار، فرصا اقتصادية جديدة للارتقاء الاجتماعي لم تعد أوروبا نفسها قادرة على توفيرها. أما الطلبة فتقول الدراسة أن وجودهم في الجامعات المغربية والمدارس والمعاهد العليا، هو وجود قديم العهد، خاصة بالنسبة للناطقين بالفرنسية، ويستقر عدد من المهندسين والكوادر العليا في المغرب بعد إنهاء دراستهم ويواصلون مسارات مهنية مثل الأطباء والممرضين الذين يشتغلون في المستشفيات.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أطلق عملية «الوسيط» التي تهدف إلى حماية حقوق المهاجرين في المغرب من خلال تقوية دور المجتمع المدني وهيئات الدفاع عن حقوق المهاجرين، وانتهت في تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي ومكنت 72 جمعية مغربية من الاستفادة من الدعم وتقوية عملها في اتجاه ضمان الاندماج للمهاجرين والحصول على حقوقهم الأساسية.