التعدد ينتهك كرامة المرأة الجزائرية باسم الدين
الجزائر : فاطمة المعروفي لأخبارنا الجالية .
قانون التعدد المشروط يفشل في توفير الحماية لضحايا الزواج العرفي مع تنامي الظاهرة في المجتمع الجزائري.
لم يوفق المشرّع الجزائري في التعديل الذي أدرجه في البند الثامن من قانون الأسرة، في درء التحايل على الأعراف والقانون من طرف بعض الرجال، بغية تكرار الزواج، فالتعدد المشروط الذي سنه القانون من أجل ضمان حقوق الزوجتين أو الزوجات والعدل بينهن، لم يردع الظاهرة، رغم العقوبات التي أقرها في حق المخالفين وأصحاب التصريحات الكاذبة، ما أدى إلى تنامي ظاهرة الزواج العرفي وإلى فرض أمر واقع يتوجب التسوية الإدارية للأسر الجديدة.
كشف المحامي جمال صديقي عن تفاقم ظاهرة زواج “الفاتحة” (العرفي) في السنوات الأخيرة، حيث تسجل غرف شؤون الأسرة في ربوع البلاد العشرات من الحالات، مقارنة بما قبل تعديل قانون الأسرة العام 2005، كما طفت إلى السطح العديد من ممارسات التحايل الاجتماعي والديني، بما فيها الحصول على فتاوى من شيوخ دين أجانب لا صلة لهم بتفاصيل وقوانين المجتمع الجزائري.
وأكد صديقي أن الفجوة التي تركها المشرع من أجل الامتثال للنصوص الدينية، والحفاظ على مبدأ التعدد، مقابل وضع شروط العدل وضمان الحقوق، تحولت إلى متنفس للعديد من الرجال من أجل تكرار الزواج ولو في شبه سرية إدارية، ثم الرمي بالأمر الواقع الجديد على المجتمع وعلى القضاء والإدارة، للاعتراف بالأسر الجديدة، وحماية حقوق الأطفال المدرسية والصحية.
قانون التعدد المشروط لا يوفر الحماية للزوجات في الجزائر، لا سيما وأن التعدد لا يخضع لضوابط قانونية بل لتأويلات دينية واجتهادات شخصية، بالإضافة إلى أن البعض من الجزائريات يقبلن بالتعدد هربا من العنوسة ومن أحكام المجتمع القاسية وبحثا عن ظل رجل، فيجدن أنفسهن في ورطة كبيرة، فبدلا أن يحملن لقب زوجات يصبحن خادمات منتهكات الحقوق والكرامة
ووجد التحايل على قانون الأسرة، أنصارا له لدى المحافظين والإسلاميين، بدعوى “الحد من الحق الذي أقره النص الديني بالنسبة للرجل في الزواج بأكثر من زوجة واحدة، وعدم إيلاء الأهمية لتفاقم ظاهرة العنوسة في المجتمع الجزائري، حيث يبلغ تعدادهن نحو 11 مليون عانس، فضلا عن الوقوف في وجه رغبات نسوة لا يمانعن في دخول ضرة عليهن”.
وكانت رئيسة حزب العدل والبيان نعيمة صالحي، قد أثارت جدلا كبيرا في الساحة السياسية، ودخلت في سجال مع أحزاب ديمقراطية وجمعيات مدنية، بعد انتقادها للتعديلات التي أدرجت على قانون الأسرة، واعتبرت التدابير الجديدة بمثابة عراقيل بيروقراطية تحول وتحرم الرجل من حق أقره الشرع والنص، وتشجع على انتشار الرذيلة والزواج السري. وعرفت المرأة المحسوبة على تيار الإسلام السياسي والمثيرة للجدل، بعبارتها الشهيرة “شخصيا أسمح لزوجي بتكرار الزواج من ثانية وثالثة ورابعة، بدل أن يمارس الفاحشة أو يتزوج في السر، فضرة أمام عيني وعلمي أحسن من عشيقة في الخفاء”.
ووضع المشروع الجزائري في البند الثامن مكرر ومكرر 1 شروطا أساسية لتكرار الزواج، تقوم على الإبلاغ الرسمي للزوجة الأولى والثانية، وتقديم الطلب التفصيلي إلى القاضي المختص في المحكمة الإقليمية، يشرح فيه أسباب وخلفيات العملية التي لا تتم إلا بموافقة الزوجتين، وفي حال رفض إحداهما يتم رفض الطلب.
ويقول البند “يسمح بالزواج بأكثر من زوجة واحدة في حدود الشريعة الإسلامية، متى وجد المبرر الشرعي وتوفرت شروط ونية العدل.. يجب على الزوج إخبار الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل على الزواج بها، وأن يقدم طلب الترخيص بالزواج إلى رئيس المحكمة لمكان مسكن الزوجية، ويمكن لرئيس المحكمة أن يرخص بالزواج الجديد، إذا تأكد من موافقتهما وأثبت الزوج المبرر الشرعي وقدرته على توفير العدل”.
ويشدد الناشط الإسلامي عبدالفتاح حمداش على أن المجتمع الجزائري يعيش على قنبلة اجتماعية موقوتة ستترك أثاراً وخيمة على الأمة، بسبب ما يسميه بـ”التضييق على تكرار الزواج”، وبسبب حظر الحكومة لنشاط الجمعيات الخيرية، التي كانت تتكفل بتزويج الشباب بأعراس جماعية، ومساعدة آخرين على بناء أسر جديدة.
لكن جمعية “راشدة” ترى أن غلاء المعيشة والمغالاة في التقاليد والظروف الاجتماعية المتدهورة، خاصة في مجال الشغل والسكن، هي التي تقف وراء تفشي ظاهرة العنوسة، وأن قانون الأسرة جاء ليضع حدا لجور اجتماعي تراكم طيلة العقود الماضية، حيث كانت الزوجة مجرد قطعة ديكور في البيت يمكن استبدالها حسب أهواء ونزوات الرجل، بلا حسيب ولا رقيب، ولا مراعاة لمشاعر وشخصية الزوجة ككائن بشري حساس جدا لمثل هذه المسائل.
ويرى المحامي صديقي أن “القانون لا يمكن أن يعالج وحده ظاهرة تعدد الزوجات في المجتمع الجزائري، فالموروث المتراكم والذهنيات السائدة، يسيران عكس المغزى والدلالات التي أقرتها تعديلات قانون الأسرة، وفي غياب وعي اجتماعي وحضاري وهيمنة تقاليد معينة، تبقى ممارسات التحايل قائمة، ومستفيدة من خصوصيات المرأة الجزائرية، ففي الكثير من الحالات تضطر الزوجة الأولى إلى القبول بالأمر الواقع حفاظا على استقرار الأسرة ومراعاة لمصلحة الأبناء”.
وأضاف “ما تخفيه أروقة المحاكم من قصص وقضايا مترتبة على الزواج العرفي الذي تفاقم بعد تعديل قانون الأسرة، يؤكد أن المرأة الخاسر الأكبر في هذه الوضعية سواء بالنسبة للسابقة أو للاحقة، فليس هناك أسهل من التخلي عن امرأة لا تجمعها بزوجها أي وثيقة رسمية، كما أن أكثر ما تواجهه المتزوجات بالزواج العرفي، إثبات نسب الأبناء في حال تخلي الأزواج عنهن، فهم مصنفون في خانة الأطفال غير الشرعيين رغم أنهم نتيجة لعلاقة شرعية، كما يطرح مشكلة المطالبة بالميراث في حال وفاة الزوج ورفض عائلته أو ‘الزوجة الشرعية’ الاعتراف بهذا الزواج”.
ورغم تشديد وزارة الشؤون الدينية والأوقاف على الأئمة المنتسبين إليها، رفض عقد أي قران دون التأكد من وجود عقد إداري بين الزوجين للإسهام في حماية حقوق الزوجة، فإن الثابت أن رقعة التحايل ما لبثت أن توسعت وكسبت تواطؤ مختلف الأطراف في ظل غياب ما يعرف بـ”المأذون الشرعي” المرخص له والمعترف به من طرف السلطات الدينية والإدارية، فأي حافظ لجمل عقد القران الشرعي بإمكانه القيام بالمهمة في حضور الوليين الشرعيين.
وتروي عائشة (48 عاما)، وهي أم لخمسة أبناء، قصتها مع زوجها الذي ضغط عليها بكل الوسائل من أجل أن تقبل بزوجة ثانية، هي في الأصل عشيقة له، وكيف كانت ترفض الفكرة جملة وتفصيلا حتى وهي تحت التهديد والوعيد وحتى العقاب المادي والمعنوي، والمساس بمشاعرها وكرامتها.
وقالت عائشة “في البداية لم أتقبل الطرح بتاتا، رغم ما عانيته، إلا أنني شيئا فشيئا تنازلت عن حقي ومشاعري من أجل أن يعيش أبنائي في استقرار وبعيدا عن التوتر والعقد النفسية، لأنني خلصت إلى أن الاستمرار في موقفي سيفجر البيت، ولم تكن تهمني نفسي بقدر ما كنت أفكر في مستقبل أبنائي وتنشئتهم الاجتماعية والنفسية السليمة”.
وتابعت “لا أريد تذكر تلك الأيام لأن الصدمة كانت قوية، ولم أجد من يقف بجانبي حتى أهلي لم يتعاطفوا معي، فأنا أرى الرجل رجلا مهما كان موقعه وعلاقته، سواء كان زوجي أو شقيقي أو أبي.. كلهم من معين واحد، ولا أحد يقدر مشاعر المرأة المصدومة والمهزوزة، إلا المرأة التي عاشت نفس التجربة، لأن العدل والحقوق مجرد شعارات فقط”.
وعن سؤال حول معالجة ومراجعة قانون الأسرة لمسألة تعدد الزوجات، ردت بأسف “لو تعلق الأمر بمجتمع آخر لكان بالإمكان الحديث عن القانون، أما أن يتعلق الأمر بمجتمع جزائري أو عربي حسب اطلاعي، فهو أقرب لذر الرماد في العيون، فالقانون الجزائري حدد حالات التعدد ووضع شروطا صارمة لكن في الواقع ماذا حقق؟ لا شيء”.
وأضافت “لما كان زوجي يراودني على السماح له بالزواج من ثانية، لم يكن يفكر في العملية كما كنت أعتقد، بل كان قد فعلها في السر، وعقد قرانه بـ’الفاتحة’ (قران شرعي)، وتفطنت للأمر متأخرة لما علمت بوجود ولد له، ووضعني أمام أمر واقع من أجل تسوية القران إداريا وتقييد الولد في سجلات الحالة المدنية، وعندها حتى الانتحار لم يعد حلا بالنسبة لي، لأن موتي سيخلي له الساحة ويعذب أطفالي من بعدي، ولم أجد حلا إلا الإذعان للأمر الواقع”.
وتختزل قصة عائشة المئات من الحالات التي تصطدم فيها نزوة تكرار الزواج لدى بعض الرجال بنصوص قانونية صريحة، ما أنتج وضعيات اجتماعية جديدة في المجتمع، زادت من معاناة زوجات ضحين وقضين عمر الزهور مع أزواج غير أوفياء، سرعان ما انقلبوا عليهن، وحولوهن إلى نكسة نفسية ومعنوية متحركة، والأمر لا ينطبق على الزوجة الأولى فقط، بل ينسحب على الثانية وربما على من بعدها.
ومع ذلك فإن التطورات الاجتماعية أفرزت توجهات جديدة تكرس الفجوة بين روح القانون والأفكار المستحدثة في ظل تصاعد بعض الأصوات المشجعة على التعدد أو على الميل إلى الرجل المتزوج بدعوى رصيده وخبرته في الحياة، وعدم أخذ الوقت والاهتمام الكلي من الزوجة الثانية المرتبطة بالشغل واهتمامات الحياة، بما أن الزوجة الأولى بإمكانها توفير المبتغى.
ممارسات التحايل تبقى قائمة، ومستفيدة من خصوصيات المرأة الجزائرية، ففي الكثير من الحالات تضطر الزوجة الأولى إلى القبول بالأمر الواقع حفاظا على استقرار الأسرة
وتذكر لامية (24 عاما) ومتخرجة من الجامعة أنها “لا تمانع في الزواج من رجل متزوج أصلا، وأن التعدد لا يمثل بالنسبة لها عائقا أو مانعا، وهذه قناعة راسخة لديها، لأن المهم هو التفاهم والانسجام”، وتبرر ذلك بكون الزواج الجديد ينطوي على التزامات وتعهدات منزلية واجتماعية، لا يمكن أن توفرها له بسبب عملها ومشاغل حياتها خارج البيت، ولذلك فإن الزوجة الأولى تتكفل باللازم وتكمل له هي الباقي. وعن سؤال لـ”العرب” حول تنافي مثل هذه الأفكار مع الحقوق الأساسية للزوجة والمرأة عموما، والمآسي المعروضة بشكل دائم في أروقة المحاكم بسبب الملابسات المشبوهة لتعدد الزوجات، ترى لامية أن “التطورات الاجتماعية يمكن أن تفرز أشياء جديدة، تكون في البداية منبوذة، ومع مرور الوقت تتحول إلى تقليد راسخ”.
وأضافت “صحيح الشعور بالضرة مر يهز كيان المرأة، ولذلك عالجه القانون بنصوص صارمة ورادعة، لكن للتحولات الاجتماعية منطقها، فقد نصل إلى زمن تتغير فيه المفاهيم، فنحن أمام أزمة عنوسة خانقة من جهة، وضغط الحياة يجعل الزوجة الواحدة غير قادرة على الوفاء بجميع الالتزامات تجاه الزوج، ومن ثمة يصبح التعدد شيئا عاديا”.
ويبقى العدل وحماية الحقوق في صلب معادلة تعدد الزوجات حسب أستاذ علم الاجتماع محمد أمين الحسين، فما ينشده القانون وما يروج له باسم الدين وتفاقم ظاهرة العنوسة، يصطدم بفشل معظم التجارب بخذلان واحدة من الزوجات من أي ناحية من النواحي المادية أو المعنوية، وتتحول إلى حالة إحباط تتحطم فيها حقوق الزوجة في الحياة الكريمة، ولا يبقى أمامها إلا التضحية من أجل حماية الأبناء. ويرى أن المسألة تتعلق بكرامة وشخصية الزوجة والمساس بمشاعرها، ولذلك تكون المواقف كلها في حالة رفض مبدئي لفكرة التعدد، وتتبعه حالة من التغير السلوكي وتنامي الرغبة في الانتقام، لا سيما وأن النظرة الاجتماعية المتوارثة تتركز عليها كزوجة ناقصة وربما غير صالحة، وإلا لما أقدم زوجها على الزواج من ثانية.
وأكد أن “مسألة العدل بين الزوجات تطرح بقوة في ظل تداخل ظروف ثقافية واجتماعية وحتى نفسية تحول دون تحقيق العدالة المثلى بين الأزواج في الجزائر، ويبقى العدل المادي الأقرب إلى التحقيق لدى من اختار التعدد مقارنة ببقية الجوانب الأخرى، خاصة لدى ميسوري الحال، إلا أن ذلك عادة ما تقابله صعوبات بالغة جدا في التوفيق في مجال المعاشرة الزوجية، وذلك نتيجة للتصورات المستقرة في ذهن الزوج حول زوجاته”.
ولفت إلى أن “موضوع الزواج عامة بات في غاية الخطورة بالجزائر، بالنظر إلى الارتفاع المذهل لمعدلات العنوسة دون احتساب الأرقام الخاصة بنسب الزواج الفاشل (12 مليونا من الإناث و9 ملايين من الذكور بلغوا سن الزواج)، لذلك فقد باتت من الواجب مراجعة جملة من الأمور بما في ذلك المفاهيم المجتمعية الخاصة بفكرة التعدد خاصة لدى النساء.