معايير مزدوجة لسياسات الترحيل الأوروبية
في الواقع لا تمثل هذه السياسات ضربة للمعايير الأوروبية فقط ولكنها تضع معايير جديدة ضد المهاجرين حيز التنفيذ وقابلة للتمطيط بحسب الأهداف السياسية.
عندما يتعلق الأمر بحرية التنقل والإقامة، فإن التكتل الأوروبي يبدي في الغالب استعدادا للقفز عن الحقوق الأساسية للمهاجرين التي طالما دافع عنها في دول أخرى بعيدة عن أراضيه.
قبل أسابيع قليلة من انطلاق بطولة كأس العالم بروسيا كان للسلطات الروسية دور في إذاقة ألمانيا إحدى دول التكتل، من ذات الكأس التي تجرع منها الآلاف من المهاجرين من طالبي تصاريح الدخول والإقامة ولم الشمل، بأن رفضت منح تأشيرة لصحافي ألماني لحضور المونديال.
وبغض النظر عن احتمال ربط السلطات الروسية رفضها منح التأشيرة بالدور المحوري الذي لعبه الصحافي الألماني في كشف فضيحة المنشطات، فإن مجرد اندفاع ألمانيا للاحتجاج بشأن حرية التعبير والصحافة وحرية تنقل الأفراد يكشف عن حالة من النفاق المقزز.
قبل حادثة التأشيرة الروسية نجح القضاء الألماني في ترحيل، هيكل سعيداني، أحد المواطنين التونسيين المصنف أمنيا كخطير والمطلوب لدى القضاء التونسي في قضايا إرهابية، بعد جهد قضائي استمر لأكثر من عام ولكن أيضا بعد تطمينات من السلطات التونسية باحترام توفير محاكمة عادلة وتفادي عقوبة الإعدام.
لكن الأهم من قرار الترحيل بحد ذاته، هو أن الحكم القضائي الذي استوفى كامل درجاته وصولا إلى المحكمة الدستورية العليا، بات يمثل الآن منعرجا جديدا في سياسات الترحيل وتعقّب المهاجرين “الخطرين”، وهو ما من شأنه أن يرسم مستقبلا غامضا للعديد من غير الحاملين لتصاريح الإقامة أو القابعين في السجون الأوروبية في قضايا مختلفة.
كما يتوقع أن يمثل الحكم الذي صدر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والذي جاء معارضا لطلب الطعن في الترحيل، دعامة هامة لعمليات ترحيل جديدة في قضايا مشابهة، وهو ما تتحضر له السلطات الألمانية بالفعل.
الهدف التالي أمام الحكومة الألمانية الآن هو العمل على ترحيل التونسي الآخر حارس زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، والذي يعيش مع عائلته بألمانيا منذ العام 1997 ويتمتع بمنح اجتماعية قارة من أموال دافعي الضرائب. وتمثل هذه الحالة فضيحة من منظار حزب البديل الشعوبي والمناوئ للمهاجرين والإسلام.
ومع أن حارس بن لادن مصنف “خطير” وتم حظر التجديد لتصريح إقامته منذ عام 2005 إلا أن عملية ترحيله تصطدم بعقبات قانونية، أبرزها اعتراف المحكمة العليا بشبهة تعرضه للتعذيب في حال ترحيله إلى تونس.
لكن هذا التبرير قد يفقد حاليا أي معنى بعد منح المحكمة الأوروبية الضوء الأخضر بترحيل هيكل سعيداني، بل إن الاحتمال القائم كذلك هو أن يتحول الحكم القضائي إلى “فقه قضاء” لدى محاكم أوروبية أخرى داخل التكتل من أجل تيسير وتسريع عمليات الترحيل، والتي تجري على قدم وساق أسبوعيا باتجاه مطار النفيضة بتونس، بعيدا عن تغطيات وسائل الإعلام.
يكشف هذا في الحقيقة عن مفارقة نادرة حول بيروقراطية السلطات الألمانية التي تتعامل عادة بشكل صارم مع اللوائح المكتوبة، ولا تأبه بالسلطة التقديرية أو المرونة والاجتهاد في الكثير من الحالات الإنسانية الخارجة عن التصنيف في قانون الهجرة واللجوء والحق في الإقامة.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالترحيل لا تجد البيروقراطية الألمانية حرجا في الاعتماد على مجرد تعهدات فضفاضة من جانب السلطات التونسية بشأن التقيّد بإهمال عقوبة الإعدام وتوفير محاكمة عادلة واحترام حقوق الإنسان أثناء الاعتقال، رغم التحفظات التي تبديها منظمات حقوقية في تونس إزاء ما يجري من انتهاكات في عدد من السجون ومراكز الإيقاف.
والخطورة الأكبر أن هذه السياسات الجديدة التي بدأ يتسع نطاقها أكثر فأكثر في دول توصف إجمالا بالمعسكر المعتدل، قد تتحول إلى سياسات رسمية راسخة ومعممة في دول أخرى ذات توجه يميني ضد الهجرة مثل المجر والنمسا وربما إيطاليا التي تستعد لتكوين حكومة شعبوية، وهو ما قد يمثل ضربة لجهود إغاثة ومساعدة المهاجرين عبر البحر المتوسط.
وفي الواقع لا تمثل هذه السياسات ضربة للمعايير الأوروبية فقط ولكنها تضع معايير جديدة ضد المهاجرين حيز التنفيذ وقابلة للتمطيط بحسب الأهداف السياسية، كأن تتحجج الحكومات الأوروبية في قرارات الترحيل بـ”مبدأ الخطر على السياسة العامة للدولة” لمجرد الشبهة ومن دون أن يكون لذلك أي إثبات على أرض الواقع.
وحتى محكمة العدل الأوروبية التي كثيرا ما مثلت ملاذا أخيرا وضمانة لحقوق المهاجرين، فإنها تسمح لهؤلاء بالطعن ضد قرارات ترحيلهم فقط في إطار الحق في لم شمل الأسر المهاجرة لكنها تمنح المحاكم المحلية في دول التكتل، الصلاحيات الكاملة في تفسير العلاقة التبعية بين أفراد العائلة، وهنا يكمن مجال واسع للتلكؤ وضرب الحقوق عرض الحائط.