هزيمة دبلوماسية جديدة للعرب

خلال أقل من ستة أشهر انتقلت عشرات العواصم من الحياد الدبلوماسي إلى الانحياز السياسي، وهو انتقال غذته لا فقط عصا العقوبات الأميركية، وإنما أيضا غياب الاستراتيجية العربية والإسلامية في مناجزة القرار ومقاومته.
ضرب الشرعيات
حضور نحو 33 سفيرا وممثلا دبلوماسيا لدول أوروبية وأفريقية وأميركية لاتينية وآسيوية، مراسم نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، يؤكد فشل الفاعلين الفلسطينيين والعرب، أفرادا ومؤسسات، في مسعاهم المعلن لحماية القدس الشريف من براثن التهويد والصهينة والأسرلة.

ما بين قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة، وما بين تطبيق الإجراء، 6 أشهر بالكمال والتمام، لم تعتمد فيه الدول العربية والإسلامية فرادى كانت أو منتظمات إقليمية خطوات تطبيقية حقيقية سواء لفرض واقع على إدارة ترامب يحول دون تنفيذ القرار، أو على الأقلّ الحيلولة دون استقطاب واشنطن لمؤيدين جدد من قارات العالم الأربع.

نقول هذا لأن التفاتة قصيرة إلى تاريخ 21 دجنبر 2017، موعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، تحيلنا إلى شبه توافق دولي على الحق الفلسطيني، على الرغم من وجود أقلية تقدّر بتسع دول هي أقرب إلى الكيانات السياسية منها إلى الدول السيادية، أيدت قرار ترامب.

حينها تم اعتبار الدول المتغيبة والمقدر عددها بـ35 دولة، اختبارا جديّا للدبلوماسية الفلسطينية والعربية والإسلامية، ذلك أن وجود هذه العواصم في نطاق الرمادية الدولية لا يخفي في العمق “نصف موافقة” على الحقوق الفلسطينية في حال تمّ استثماره وتوظيفه بشكل احترافي وعملي.

المراقب اليوم للعواصم الأفريقية والأوروبية والآسيوية واللاتينية الحاضرة لحفل نقل السفارة، يدرك تمام الإدراك أن اصطفاف هذه العواصم وراء واشنطن وتل أبيب هو، في المحصلة، فشل وإخفاق دبلوماسي فلسطيني وعربي وإسلامي أكثر منه انتصارا للدبلوماسية الأميركية الإسرائيلية في الترويج لهذا القرار المخالف لأبسط الشرعيات الدوليّة.

النكبة الحقيقية تكمن في تحول العرب أفرادا ودولا من طالبي حقوق ومنادين بتأمين الشرعيات ومحاصرين لإسرائيل في المحافل الدولية والفضاءات الإقليمية، إلى مستنكفين عن الحق السليب ومسلوبي الإرادة في المقاومة والمقارعة

ليس من حق أي محلل سياسي اليوم أن يتذرع برفض المنظمات الإقليمية المنضوية صلبها تلك الدول للقرار الأميركي، في إشارة إلى الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومنظمة دول أميركا اللاتينية والكاراييبي، ذلك أن تمرد هذه العواصم على قرارات مؤسساتها المناطقية والقارية يؤكد أن واشنطن نجحت في الترويج لثقافة ضرب الشرعيات والاتفاقيات الدولية عرض الحائط، وبالتالي سحب مقولة الدولة المارقة من الفضاء المحلي الأميركي إلى الفضاء الدولي وتلك معضلة إنسانية وعالمية كبرى.

فأن تشارك 12 دولة أفريقية في الحفل، من بينها دول كانت بالأمس القريب تحظى بدعم العواصم العربية الكبرى على غرار القاهرة والجزائر في كفاحها لنيل التحرر الوطني لدليل واضح على أنّ الجغرافيا السياسية لا تقبل الفراغ وأنّ غياب العرب عن فضاءات استراتيجية كانت تمثل حديقتها الخلفية وخزانها الاستراتيجي، أمر سرعان ما استثمرته إسرائيل وطوعته واشنطن لمصالحها والعكس صحيح.

هذا دون التطرق إلى حالة فيتنام التي تبقى أفضل عيّنة للفرص الاستراتيجية المهدورة من العرب، حيث انتقلت من سياق “الدولة المقارعة للاحتلال” إلى “دولة مارقة لصالح الاحتلال”، وكله بسبب فقدان العرب لوحدة تمثل الصراع وعجزهم عن إدارة الأزمات البينية، وقصورهم عن الدفاع المشترك عن القضية الأساس والمركزية والمحورية.

خلال أقل من ستة أشهر انتقلت عشرات العواصم من الحياد الدبلوماسي إلى الانحياز السياسي، وهو انتقال غذته لا فقط عصا العقوبات الأميركية، وإنما أيضا غياب الاستراتيجية العربية في مناجزة القرار.

مقاومة القرار لا تعني مقاطعة واشنطن، ومقارعة القرار لا تعني أيضا- وفق مقدرات العرب على الفعل- إسقاطه في مجلس الأمن الدولي، وإنما مكافحته تكون بحصر الدول المؤيدة وتوسيع الدول الرافضة والحيلولة دون انجذاب عواصم محايدة إلى الشرعية الترامبية ودون نقل سفارات أخرى إلى القدس المحتلة.

حتى هذا السقف المتدني في نيل الحقوق واستدرار المطالب الشرعية، استعصى على العرب فرادى وجماعات ومنظمات تحقيقه، وقد تكون هذه هي النكبة الحقيقية.

النكبة الحقيقية تكمن في تحول العرب أفرادا ودولا من طالبي حقوق ومنادين بتأمين الشرعيات ومحاصرين لإسرائيل في المحافل الدولية والفضاءات الإقليمية، إلى مستنكفين عن الحق السليب ومسلوبي الإرادة في المقاومة والمقارعة، الأمر الذي حوّلهم إلى مجرد حلقات متتالية في مسلسل تقديم التنازلات.

النكبة لم تكن في يوم من الأيام مقترنة باحتلال الأرض وطمس التاريخ وتهويد المقدسات وأسرلة البشر، فتلك فاتورة الاحتلال يدفعها كل شعب تحت الاستيطان، ولكنّ النكبة الحقة تكمن في نسيان التاريخ وتجاوز الجغرافيا والتسليم لسارقي الأرض بأحقيتهم بها والتطبيع مع فعل الاحتلال.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: