جدران الرباط تتدثر برداء فنون الغرافيتي
لم يألف الناس في حي النهضة بالرباط في البداية رؤية جداريات ضخمة يرسمها فنانون محترفون من المغرب، ومن دول العالم. وسرعان ما أخذت خطوط اللوحة، التي يرسمها رسام في مقتبل العمر بتأن، تتلاقى ويظهر شكل اللوحة أمام أنظارهم، وهم يراقبون الرافعة الهيدروليكية بذراعها العملاقة ترفعه إلى قمة الجدار ليرسم الإطار الذي يحيطها.
المعماري المغربي اعتاد على تزيين واجهات البنايات العامة والقصور والفنادق بالمنمنمات والزخارف، والزجاج الملون المبشور، وفي بعض الأحيان يضع أشكالا من الزليج أو الجبس أو خشب الصاج لطيور أو أسود أو غزلان.
وعلى الأرجح يترك المعماري الواجهات ليزينها حرفيون يجيدون وضع الأشكال الهندسية، وتشكيل المخلوقات البحرية بلصقهم الرخام والغرانيت والبلور والأصداف والخزف على الجدار بما يشكل لوحة متكاملة كبيرة الحجم وملونة.
فنانون شباب من مختلف الجنسيات يأخذون على عاتقهم رسم لوحات فنية غالبا ما تعبر عن مواضيع على جدران مدينة الرباط المغربية، ويقدمون لعامة الناس من المغاربة فن الرسم الذي ظل على مر التاريخ حبيس المعارض وصالونات العرض. اليوم يستطيع سكان الرباط أن يواكبوا الإبداع ويتناولوه بالنقد أو الثناء وهم في طريقهم إلى العمل أو إلى الكليات والمعاهد بعد أن اختار بعض الفنانين التواصل بشكل مباشر مع الجمهور بمختلف أذواقه وأعماره وثقافاته
الجداريات التي ارتفع عددها في العاصمة الإدارية للمملكة المغربية في السنوات الأخيرة ليصل إلى أكثر من عشرين لوحة بمساحة واجهات عمارات من خمسة طوابق، أشرف على بعضها فنانون أجانب من البيرو والمكسيك واليابان واليونان وإسبانيا وفرنسا، وغيرها. نقل هؤلاء بخبرة الطويلة في فن رسم الجداريات مشاهد من حياة بلدانهم، ضمنوها رسائل إنسانية عن التعاون المجتمعي وجمال الحياة في ظل المحبة والإخاء.
انتشرت الجداريات أيضا في مدن مغربية أخرى، كالدار البيضاء وأصيلة وآسفي والجديدة ومكناس ومراكش وأكادير وسطات، وغيرها.
وجاءت موضوعاتها لتمثل مشاهد من الحياة المغربية، وفيها مناظر للجذب السياحي، كالأسواق التراثية، ومناظر لساحل المحيط والجبال والصحراء والبادية. واهتمت جمعيات فنية مغربية برسم الجداريات على جدران البنايات، كجمعية البولفار التي منحت الفنانين المغاربة فرصة إنزال الفن إلى الشارع، ليشارك الناس في الاستمتاع برؤية ما تبدعه فرشاة الفنان التشكيلي المغربي، والأجنبي ويشتركوا في تقييمه ثناءً أو نقدا.
وللجمعية مهرجان سنوي بعنوان الجدار، وقد أقيمت دورته الرابعة في الرباط قبل أيام قليلة وتمخض عن رسم إحدى عشرة لوحة موزعة في مدينة الرباط، ومن نماذج ما رسم من جداريات في مناطق الرباط باب الحد والحوز والتقدم وشارع المجد وأخيرا النهضة.
تقول الفنانة التشكيلية ربيعة الشاهد -رئيسة جمعية بصمات للفن التشكيلي بسطات حول فن الجداريات، “تعد الجدران في كل مدن العالم ذاكرة ناطقة، فيها آمال الناس وآلامهم، من رسوم الأطفال البريئة إلى إبداعات كبار الفنانين؛ جدران تتحدى برسومها الناطقة عوامل الزمن، وبالتالي تبقى هذه الإبداعات الجدارية ذاكرة موثقة، وجزءا من البعد الجمالي للفضاء الحضري”.
واستطردت الشاهد قائلة “ولعل انتشار ثقافة الجدارية في العديد من المدن المغربية يعد مسألة إيجابية جديرة بالاحتفاء، إذ تعكس تطور الحركة الفنية في بعدها التواصلي، وتوصل رسالة أنَّ الفن واللون قد خرجا من نخبويّة المعارض والمتاحف إلى الفضاء العام، حيث يتشارك الفنان متعة اللون مع الناس البسطاء، ويصبح العمل الفني إبداعا تشاركيا يعطي قيمة مضافة للزمكان، فيما يمكن تسميته بدمقرطة الجمال”.
وأضافت “أنَّ الجداريات تمرّد واضح على ثقافة الصالونات والمعارض، ولعل مدينة أصيلة المغربية خير نموذج لمدى تفاعل الناس مع الحس الجماليّ، بل إنَّ المدينة اشتهرت بجدارياتها أكثر من المعارض التي تنظم في إطار مهرجانها الدولي”.
وأشارت الشاهد إلى أهمية موقع الجدارية بقولها “لكن من جهة ثانية يبقى التحكم في تموقع الجداريات مسألة مهمة لضمان بقائها، وعدم خروجها عن نطاق البعد الجمالي العام للمدينة. وينبغي أن تحدد لها أماكن خاصة ومناسبة حتى لا تصبح عامل فوضى، كما يجب مراعاة البعد الإنساني والقيميّ للجدارية من خلال مراعاة ثقافة وتقاليد الناس بما يخدم رسالة الفن السامية التي تهدف طبعا إلى رقي النفس والروح بعيدا عن مآزق الأيديولوجيا، وخدمة خطاب سياسي أو طائفيّ دون آخر”.
واختتمت حديثها بالقول “يبقى الفن في سموه وإنسانيته هو الموحد لهذه الذاكرة الناطقة، التي يتعدى دورها الجانب الجماليّ إلى الجوانب التربويّة”.
وأكدت المهندسة المعمارية ليلى العلوني على اختيار المكان المناسب للجدارية بقولها “إنَّ أهمية رسم الجدارية لا تأتي من ألوانها وخطوطها بالأسود أو بالأبيض فقط بل من موقع الفضاء الذي تختاره الجمعية لتحديد مكان وزمان رسم الرسام لها”.
وأضافت العلوني “على سبيل المثال هناك جدارية أو أكثر في مدينة الرباط تمثل مشاهد من حياة آسيوية أو نشاطات حياتية أخرى تثير استغراب المشاهد، ولا يستوعب المواطن المغربي بسرعة ثيمات الجدارية أو ما هدف إليه الفنان من رسمها”.
تقول ليلى الأحرش -باحثة في جمعية ذاكرة الرباط- “إنه من الضروري الحفاظ على المعالم التاريخية لمدينة الرباط والمدن المغربية الأخرى، وعدم تشويه بعض الأمكنة بجداريات تموه أو تخفي تراث المدينة وتاريخها، فالأجداد استعملوا في تجميل أبنية مدينتهم مواد طبيعية فقط، كالخشب والزليج والرخام والجبس والفسيفساء والزجاج .
وأضافت الأحرش”الجدارية الأخيرة في حي النهضة كبيرة، وتجذب النظر من بداية شارع الحوز، وهي لسيدة تعدُّ الطعام على المنضدة بمطبخها الصغير. وهي إضافة عصرية لمنطقة شعبية أضافت جمالا لمنظر البنايات الحديثة التي بنيت في الموقع، وأعتقد أنَّها كانت ضرورية لإضافة شيء من الفن والجمال للمكان الذي لا يزال تحت التشييد”.
محمد قيمي -باحث اجتماعي- أكد أهمية الجداريات في المدينة بقوله “توجد بديهية في علم الاجتماع، تقول بضرورة التجديد”، والجديد ضروري، فيما يرى الناس وما يسمعون، والغاية من هذا الجديد إعطاء الناس أملا ضمنيا بالغد، وبث الحماسة في نفوسهم وإشعارهم بأنَّ الحياة في تقدم مستمر، حتى لو كان ذلك التقدم مجرد خطوط تسبح في فضاء أبيض. الجداريات تضيف شيئا إيجابيا لمزاج الطالب الذي يغادر مسكنه ليلتحق بكليته أو معهده أو مدرسته، وتعطيه إشارةَ أنّ ثمة جديدا حوله، وعليه أن يشحذ طاقاته لمواكبة جديد الحياة”.
وأضاف قيمي “المزاج العام للناس بمختلف الأعمار ينتج أفعالا إيجابية أو سلبية. ويأتي المزاج من مجموع ما يرونه وما يسمعونه حولهم كل يوم. ويتجمع كل ذلك، لينفجر في النهاية إما بعمل جيد وإما بابتكار جديد يضيف للحياة وإما بعمل سلبي يتسبب في أذية الذات ومن حولها.
وأظن أن إنزال الفن التشكيلي إلى الشارع من خلال الجداريات أضاف لمسة فنية وإنسانية طيبة إلى النفوس المشغولة بتصريف شؤونها المتشابكة، بسبب تطور الحياة والمشاغل، وروتينية أفعالها اليومية”.