متى تُفرج الجزائر عن أرشيفها الممنوع؟

قبل ست سنوات، صدر الجزء الأول من مذكرات رئيس الجزائر الأسبق الشاذلي بن جديد (1929-2012). ولحد الساعة لم يصدر الجزء الثاني من تلك المذكرات. دار النشر «القصبة» أعلنت، في البداية، أن الجزء الثاني، الذي يُغطي فترة تولي بن جديد رئاسة البلد (من 1979 إلى 1992)، ويُلامس بعض المراحل الحرجة، سيصدر في ربيع 2013، ومرت خمس سنوات، بدون أن يرى النور. والسبب في تأخر صدورها، وإمكانية ألا تصدر، هو طول يد الرقيب، الذي يتمتع بموهبة وقدرة على شم ما لا تريد السلطة أن يصل للقارئ، فالرقابة هي واحدة من الأنشطة التي لم تعرف فتوراً، في البلد، وحركة النشر واستيراد الكتب، تخضع لسياسات صارمة، وليس من السهل تمرير مطبوع، لا يُوافق آراء أصحاب الحكم، أو يمس «مقدساتهم» الذاتية.
في الجزائر، لا يوجد قانون يخص الرقابة، ولا تعريف واضح لها. لا بنود ولا تشريعات يمكن الاستناد إليها في منع كتاب أو في الدفاع عنه ضد الرقيب. فمعايير المنع تتغير من مرحلة زمنية إلى أخرى، تتعلق بمزاج أفراد لا بتشريعات، ما كان ممنوعاً في السابق بات مباحاً اليوم، والعكس صحيح. من حيث المبدأ، فإن الرقابة تتدخل ـ عادة ـ من أجل حماية القارئ، أو تأطير ما يتناقض مع قيم إنسانية، أو ما يُسيء لفرد معين، بينما في الجزائر، تلعب «الرقابة» دور التخويف والتحذير، وأحياناً التهديد. فحين يُمنع كتاب أو نص، فالمقصود هو تخويف صاحبه، أو من يُقاسمه الفكرة نفسها، ترهيبه وردعه. بالتالي هو منع سياسي، وغالباً ما يتعلق بمزاجات مرحلية، متقلبة، وليس يعبر ـ بالضرورة ـ عن سياسات مؤسساتية.
إن الرقابة في الجزائر تعتبر في حد ذاتها حقلاً خصباً، ويستحق أن يكون موضوعاً دسماً للأبحاث، فهذه الظاهرة لم تهدأ، منذ أن استقلت البلاد، بل تزداد شراسة، ونشاطها ظل مكثفاً، ولم يتراجع، بشكل يتعارض مع دستور الجزائر، ومع ميثاق حقوق الإنسان، الذي يضمن ـ نظرياً ـ الحق في التعبير وحرية الرأي. فأحياناً نجد أنفسنا أمام «رقابة رسمية» تتبناها جهة حكومية، تقوم بفعلها، وبمنع ما تود منعه، من دون تقديم تبريرات ولا دلائل مقنعة، وأحياناً تكون «رقابة مقنعة»، لا نعرف من الجهة التي تقف وراءها، ولا نجد في الكتاب الممنوع سبباً لحجزه، والخاسر في الحالتين هو القارئ، فكثير من الكتب نسمع عنها، في الجزائر، لكن لا نجد أثراً لها.
بما أن «الديمقراطية» ليست سوى شعار في البلد، فإن الرقابة تصير شيطاناً، كما عبر عنها أندريه جيد، نسمع عنه من دون أن نراه. فالرقيب يبدو أنه أكثر الأشخاص نباهة وفطنة ولؤماً، حيث لا يمنع ـ أحياناً ـ كتاباً بسبب محتواه، بل بسبب نوايا كاتبه، فهو يقرأ ما خفي في الصدور. حتى إن لم تكن للكاتب نوايا، فإن الرقيب يخترع له نوايا، كي يمنع كتابه. فهذا الرقيب يعلم ما في نص أكثر من المؤلف الذي كتبه، وله قدرة على تأويل أي كلمة إلى «مساس بالمقدسات والقيم»، فهو يستطيع أن يؤول ما لا يُؤول. غالباً ما تتعلق الرقابة بحقل الأدب، هي تمس ما هو مكتوب، لكن من يقوم بها يأتي من حقل السياسة أو الدين، ولا علاقة له بالأدب؛ سترتفع الأصوات والاحتجاجات في الدفاع عن الكتاب، في حال كان المنع لأسباب عقائدية أو أخلاقية، ثم تخفت في حال كان السبب سياسياً والرقيب من «خدَم» السلطة. كما لو أن هناك اتفاقا ـ ضمنياً ـ على تقبل اللعبة السياسية، وهذا ما نجده في موضوع الجزء الثاني من مذكرات الشاذلي بن جديد، حيث صرح الصحافي عبد العزيز بوباكير، الذي قام بتحرير المذكرات، بأن «الكتاب موجود عند الناشر وباللغتين (العربية والفرنسية)»، مع ذلك لم يُثر نقاشا حقيقيا في الموضوع، بحكم أن الكتاب يتعلق برجل سياسة، والمانع سياسي، لهذا التزم الجميع الصمت والتواطؤ.
يبدو أن العقل الجزائري قد تدرب على مقولات السلطة، بأن الحرية المطلقة تؤذي الحرية نفسها، لهذا صار من العادي أن «تحد» الحريات ـ أحياناً ـ ويتدخل الرقيب، ليذكرنا بوجوده، وبأن للحرية حدود، وصار هناك تقبل جزئي لوظيفة الرقيب، واستدعاء مبطن له، من حين لآخر. ومثلما تركز الرقابة على نقد «أخلاقيات» الكاتب ونواياه، أليس من الواجب انتقاد فعلها من باب أخلاقي أيضاً؟ خصوصاً أنه لم تصر فقط شيطاناً، بل غولاً، تتسع يداه طولاً، من عام لآخر.
الجزائر لم تتوقف، من أكثر من نصف قرن، عن مُطالبة فرنسا، برفع الحظر على أرشيفها، وتسليمها كل ما يتعلق بماضيها، وممتلكاتها المعنوية، بالمقابل، أليس من حقنا أن نُطالب السلطة في الجزائر برفع الحظر عن الأرشيف الممنوع، والكتب أو الأفلام التي منعتها؟ أن تفتح باب غرفتها الخلفية، وتفرج عن الكتابات والأشرطة، التي تتستر عليها؟ فقد كشفت وكالة الأنباء الجزائرية، قبل أيام، عن وجود 35 ألف صندوق من أشرطة سمعية ومرئية، ترقد في قبو ولاية الجزائر. أليس من حق المواطنين أو الباحثين الاطلاع عليها؟
هناك نوعان من الرقابة في الجزائر؛ كُتب تُمنع من الصدور، وأخرى تُصادر حال خروجها من المطبعة. في الحالة الأولى، سنجد ـ مثلاً ـ رواية «ليالي الجزائر الصاخبة»، التي مُنعت في الجزائر، وصدرت في فرنسا، عام 1984. ومباشرة تمت مصادرتها. وحسب بعض الأقوال فقد اشترت الجزائر كل نسخها، وأتلفتها.
الرواية كتبتها امرأة سويدية متفرنسة، كانت زوجة واحد من كبار المسؤولين في الدولة. الجميع سمع عنها، ويتحدث عن الرواية، لكن لا أحد استطاع الوصول إليها. وفي الحالة الثانية، نُصادف رواية «بوتاخين»، التي صودرت، بعد توزيعها في المكتبات، خريف 2009، بحجة انها تتعرض لشخص رئيس الجمهورية. في السينما كما في الأدب، أفلام منعت، وفرضت عليها الرقابة، ولم تجد طريقها للشاشة، أليس من المهم، مع تغير أشياء كثيرة في الجزائر، أن يُفرج عنها؟
أي حديث عن الحرية، وعن احترام الحريات، في الجزائر، لن يبلغ معناه، من دون احترام الحرية الفكرية والأدبية والفنية. وتلك الاحتفالات السنوية، التي تُصرف عليها أموال الخزينة العمومية، بمناسبة اليوم العالمي لحرية التعبير، لا قيمة لها، ولن تخرج من كونها «فلكلورا»، مادام الرقيب يُمارس عمله بكل «شفافية» ولا أخلاقية، وقبل أن نحضر أنفسنا لرقابات قادمة، سيكون من المهم ـ أولاً ـ أن تتحرر السلطة من ذهنية «التحفظ» وتدخل عصرها الجديد، وترفع الحظر عن الأرشيف القديم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: