إشكالية اليهود المغاربة في الفكر الصهيوني لبن غوريون

May 04, 2018

« كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، وفي النهاية لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي يفوق كثيرا في عراقته وعظمته تاريخهم» (المؤرخ البريطاني هربرت جورج ويلز).
كشف كتاب «دولة بأي ثمن ـ سيرة حياة ديفيد بن غوريون» الذي أصدره المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف. النقاب عن شخصية بن غوريون، الانفصامية وذات المخيلة المريضة. وتحتوي سيرة العجوز الصهيوني، على تصريحاته عن اليهود المغاربة، وأفكاره العنصرية، تجاه عروبتهم وشرقيتهم. فبعد مرور 70 سنة على النكبة والاستبسال الفلسطيني النادر لعدم التنازل عن أرضه المحتلة، ها هو سلاح العودة أقوى الأسلحة التي ترعب الاحتلال. وتسحب أحد أُسس شرعيتها، تعود على الحدود الوهمية لفلسطين على غزة.

محاربة روح الشرق

رغم تواجد بن غوريون على رأس دولة الاحتلال في فلسطين، لم تكن له صلة اجتماعية أو روحانية مع العرب. تقول إحدى الروايات، إنه حين قام بجولة في الجليل، وصرح بلهجة عنصرية غاضبة «كل من يتجول في الجليل ينتابه إحساس بأنها ليست جزءا من أرض إسرائيل» وفي رواية أخرى للمحادثة أن بن غوريون قام بجولة في الجليل، بينما كان يعبر الطريق بين عكا وصفد فمرّ بقرى عربية وسأل عن أسمائها وعندما قيل له إنها مجد الكروم ودير الأسد وراما ذكر أنه أجاب «أأسافر داخل سورية» وأصدر على الفور أوامره ببناء مستوطنة الكرمل في المنطقة.
كان يقول عام 1967: «لا توجد حقوق تاريخية إلا تاريخ شعبنا وأرضه، لا يوجد شعب بعيد عن أرضه ومشتت 2000 سنة. هناك حق للعرب في أرض إسرائيل، ولكن لا حقوق للأمة العربية في أرض إسرائيل التي لها مطلب واحد وهو الشعب اليهودي الذي لا يملك بلدا آخر. للأمة العربية توجد بلاد كثيرة وأكثرها غير مأهولة». وكانت لديه صورة سلبية عن الاتجاهات التربوية، الاجتماعية والسياسية للعرب في الشرق الأوسط. وفي خطاب له قال، «لم تنجح أي دولة عربية، ولم تحاول حتى في معالجة الفقر… الأمية، الاستغلال والعبودية التي كلها من نصيب الشعوب العربية». أما عن الدين الإسلامي فقال: «فقد تم ذبح الأرمن بدون أن يفتح أحد فاه، جيراننا معتادون على ذلك، هذه هي فلسفتهم الدينية. يوجد شيء على علمهم وهو السيف ـ الذي يعبر عن الفلسفة الدينية الإسلامية. عن طريق إضعاف المسلمين يمكن منعهم من تحقيق أهدافهم في بعض الدول، وأعرف عن اليهود الذين ذبحوا على يد المسلمين». كان يرى، أن اليهود الشرقيين يشكلون تهديدا مباشرا أكبر، حيث إنهم جزء من المجموعة الدينية نفسها، والثقافة العربية تشكل تهديدًا حقيقيًا للثقافة المهيمنة. كان يلازمه خوف أبدي من ان إسرائيل المحتلة، ستصبح يوما ما دولة عربية. وهذا ما ظهر جليا في قوله: «لا نريد للإسرائيليين أن يصبحوا عربا.. من واجبنا أن نحارب روح الشرق التي تفسد الأفراد والمجتمعات، وأن نحافظ على أصالة القيم اليهودية، كما تبلورت في الشتات».

إشكالية بوتقة الانصهار

الصهيوني ديفيد بن غوريون (1948 ـ 1953)، بولنديّ الأصل، صاحب الرؤى، الذي لم يكتفِ بالتنظير للصهيونية، وإنما ساهم في تحويلها إلى حقيقة. من مهندسي رؤية «بوتقة الانصهار» التي نصت على دمج جميع الفئات والمجتمعات والطوائف الإسرائيلية لأجل صناعة نوع جديد من اليهودي الإسرائيلي العبري. توجّه قبل الإعلان عن قيام إسرائيل إلى وزارة الخارجيّة البريطانيّة، وطلب منها تأجيل الإعلان عن قيام الكيان الصهيونيّ- اليهوديّ بـ10 أعوامٍ، لكي يتمكّن من استجلاب اليهود الناجين من المحرقة، إلى فلسطين لخوض الحرب الشاملة ضدّ العرب. أمام هذا العجز كان الاتجاه الصهيوني الثاني، استجلاب يهود عرب، معتقدين أنهم سود أو سمر. وقد ظهر رأي بن غوريون جليا في اجتماعٍ له مع الكتاب والمثقفين سنة 1949 حين قال: «حتى المهاجرون من شمال إفريقيا الذين يبدون كالمتوحشين، الذين لم يقرؤوا كتاباً في حياتهم، ولا حتى كتاباً دينياً، ولا يعرفون كيف يتلون صلواتهم يملكون ـ كيهود ـ سواء عن دراية أو عدم دراية، إرثاً روحياً يعود لآلافٍ من السنين».
جاء هذا الكتاب ليكشف عن وثائق مهمة، منها واحدة مسرّبة عن لقاء جمع رئيـــــس الوزراء الأســـبق ديفيد بن غوريون، مع قيادات عسكرية سنة 1950، تعكس عن حجم الكره الذي يكنه، لليهود المغاربة الذين التحقوا بجيش الاحتلال وللثقافة اليهودية المغربية حيث قال:
«أرى أن جمع شمل المنفيين يجلب لنا الكثير من الرعاع» على حد تعبيره. ثم تابع قائلا «إن أسس مهنة الجندية تقتضي منا إذابة هؤلاء الرعاع في بوتقة انصهار، وإعادة تكوينهم وفق قالب إنساني، ثم يهودي، ثم إسرائيلي، وبعد ذلك عسكري». وبعبارات أقرب إلى الازدراء منه إلى السخرية أردف أن: «أولى الأولويات في تكوين الشباب القادمين من تلك البلدان، قبل أي تدريب عسكري، ليس السرقة، أو القبض على فتاة عربية واغتصابها وقتلها، بل إن أول ما يجب أن يتعلموه هو الجلوس في المرحاض كأي إنسان، وكيفية الاستحمام». ثم أضاف :»ما عدا ذلك، فإن أي تكوين أو تدريب عسكري لا قيمة له. ذلك أن (اليهود) القادمين من المغرب لم تطأ أقدامهم مدرسة، وعاداتهم هي عادات العرب، يحبون زوجاتهم ومع ذلك يضربونهن. ولحدود الساعة لا أرى أي تغيير في طباعهم، بل ربما يجب أن ننتظر الجيل الثالث لكي تظهر أولى بوادر التغيير. إن اليهود المغاربة أخذوا الكثير عن المغاربة العرب، ولا أعتقد أن هناك شيئا مهماً يمكن أن نتعلمه من المغاربة العرب. إن الثقافة المغربية غير مرغوب فيها هنا». وكان يجهل حتى موقع وجغرافية المغرب، حيث قال «الآن يصـــل إلى أرض إسرائــــيل البدائيون والمُتخلفون من جبال الأطلس ومن أحياء الفقر المُدقــــع في كازابلانكا (الدار البيضاء في المغرب)». بن غوريون، الجاهل بالتاريخ المغربي وبالحضارة العربية في الأندلس، القادم من الغيتو البولوني. كان المغرب يشكل له غصة، راجعة للموقف الحضاري للملك المغربي الراحل محمد الخامس، في عدم تسليم اليهود المغاربة للنازية.

الصعود إلى العنصرية

« لقد تركت والدتي طنجة، ببحرها ومينائها، لتُرمى بمكانٍ ما بالضواحي، معظم اليهود الشرقيين تركوا وراءهم حياةً أفضل ليخرج عليهم ديفيد بن غوريون وينعتهم بـ«أشباه الآدميين»، لقد تعاملوا معنا كمواطنين من الدرجة الثانية، وأقاموا جهاز تربية خاصًا لتحويلنا إلى عمال، كما جعلونا نخجل من لغتنا العربية وتقاليدنا، وحاولوا محو هويتنا وثقافتنا. تحدثوا عن المساواة، وفي الواقع بنوا حكمًا أوليغاركيًا أشكنازيًا يسيطر على الأغلبية». (الباحثة اليهودية المغربية شيرا أوحيون)
بدون علم بنوايا الصهيوني بن غوريون، اعتقد اليهود المغاربة، أنهم ذاهبون إلى بلد العسل واللبن، كما جاء في التوراة. وتنوعت مُبررات إحضار اليهود من الدول العربية إلى إسرائيل، وحسب الخبراء، أن المسألة لها اعتبارات ديموغرافية وأخرى عملية. فمن جهة، كانت هناك حاجة للتوسّع قدر الإمكان وتوطين المزيد من اليهود في المناطق النائية أو القريبة من العرب ومن الحدود وخطوط التماس (غلاف غزة وصحراء النقب). ومن جهة أخرى، كانوا بحاجة إلى قوى عاملة رخيصة، ولم ينظروا إلى العرب غير اليهود كإمكانية. مع بداية وصولهم لإسرائيل عام 1948، تولى اليهود الإشكنازيون، الآتون من شرق أوروبا، أبناء المزارعين ذوي التعليم الديني، الصهاينة المتعصبين، سياسة قائمة على العصبية والعنصرية تجاههم إذ قاموا برشهم بالمبيدات، وتسكينهم في مخيمات بلا كهرباء، وأخذوا يسخرون من لهجتهم العربية، وينعتونهم رعاة الجمال وثقافة الحريم. ورغم ما تزعمه من كونها دولة ديمقراطية، تعيش إسرائيل من الداخل على وقع صراع مستمر بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، وتمييز ضد العرب، وتناقضات عميقة داخل المجتمع اليهودي. وبينما يعتبر اليهود الغربيون، أن تأسيس «دولة إسرائيل» انبنى على زرع دولة أوروبية خالصة في منطقة الشرق الأوسط، يرى اليهود الشرقيون أن حلم «أرض الميعاد» يسع جميع من يعتقدون بالدين اليهودي. فلم تقتصر العنصرية تجاه اليهود الشرقيين من قبل جماعات الأشكناز، إذ تقر الدولة هذه العنصرية بسياسات إقصائية، جعلت الكثير منهم يعتمدون على المساكن الشعبية التي وفرتها لهم الدولة، والتي تحاول إخلاءهم منها اليوم. كما شملت هذه السياسات تمييزًا بين مجموعات اليهود الشرقية والأشكناز في مستوى التعليم والدخل، إذ تم إرسال الطلاب الشرقيين إلى مدارس مهنية، على العكس من الطلاب الأشكناز الذين تعلموا في مدارس نظرية تؤهلهم للدراسة الجامعية، ورفع مكانتهم الاجتماعية.

انهيار وعاء الانصهار

فشل بن غوريون فشلا ذريعا في وعاء الانصهار الصهيوني، وفي دمج اليهود المغاربة في المجتمع الإسرائيلي، من خلال الأخطاء التي وقعت لدى استيعابهم المتمثلة ببوتقة ثقافة غربية. كل احلامه دفنت بصورة نهائية، وهذا ما ذهب اليه الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان حينما قال بخطته، «إسرائيل حصن، لكنها ليست وطناً بعد». حتى بعد 70 سنة من الاحتلال الإحلالي، فإن العديد من اليهود المغاربة يرغبون في العودة للحياة في المغرب وجعله النموذج الأوحد في العالم العربي للتعايش المسالم بين المسلمين واليهود، كما يرجون من الحكومة المغربية النظر في قضيتهم وتحقيق رغبتهم في الحصول على جواز سفر مغربي، ليعودوا لبلدهم كمواطنين لا سائحين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: