المغرب وسياسة الحزم في قضية الصحراء
وقعت انعطافة مهمة في السياسة الخارجية المغربية في اتجاه الحزم في كل ما يرتبط بقضية الصحراء، إذ تحولت هذه القضية إلى محدد استراتيجي يرسم به المغرب علاقاته الدبلوماسية والتجارية، ويصل الأمر به إلى درجة خوض معارك مع دول متقدمة، أو قطع علاقات مع أخرى أو التهديد بالتحلل من شراكات استراتيجية، أو حتى خوض معركة مع المنتظم الدولي وممثله الأمين العام للأمم المتحدة لنصرة قضيته الوطنية ومنع أي انحراف عن المحددات التفاوضية المتفق عليها للتوصل لحل سياسي عادل للنزاع.
حدثت الحالة الأولى مع دولة السويد التي اعترفت بجبهة البوليساريو، وكانت أول دولة أوروبية تخضع لضغوط ناشطي جبهة البوليساريو، وتفرض على المنتوجات المغربية التعريف بهويتها الجغرافية، والامتناع عن عرض أي منتوج مغربي في الأسواق الكبرى بالسويد بحجة عدم العلم بمصدرها، وهل هي من الصحراء المتنازع حولها أم من غيرها؟. وقد دخل المغرب في معركة شرسة مع دولة السويد سنة 2015 وصلت حد توقيف ماركات سويدية عالمية (فولفو) وتأجيل افتتاح «إيكيا»، وذلك باستعمال بحجج قانونية تحصن المغرب من الوقوع تحت طائلة مخالفة القانون الدولي الذي يحمي الاستثمار الأجنبي.
وحدثت الثانية مع فانزويلا سنة 2009، وذلك حين قررت وزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية قطع العلاقات مع فنزويلا، وإغلاق سفارة المغرب في جمهورية فنزويلا البوليفارية، ونقلها إلى جمهورية الدومينيكان، وذلك بسبب عدائها المتصاعد إزاء القضية الوطنية وإجراءات التأييد التي اتخذتها لفائدة جبهة البوليساريو.
وحدثت الثالثة مع الاتحاد الأوروبي سنة 2015، على خلفية الحوار حول الاتفاق الفلاحي، وذلك بعد أن اتخذت محكمة الاتحاد الأوروبي قرارا يقضي بالإلغاء الجزئي للاتفاق الفلاحي بين المغرب والاتحاد الأوروبي وذلك على خلفية استثناء المنتوجات القادمة من الصحراء من موضوع الاتفاق، فأثمرت سياسة الحزم مع هذا الاتحاد والتهديد بالتحلل من الشراكة مع الاتحاد الأوروبي أن أصدرت محكمة العدل الأوروبية في 2016 قرارا يلغي القرار السابق، لتعود الأمور إلى نصابها من جديد، وتكرر الأمر مرة أخرى في موضوع اتفاق الصيد البحري هذه السنة (2018)، بعد أن أصدرت المحكمة الأوروبية هذه السنة قرارا مشابها لقرار محكمة الاتحاد الأوروبي المتخذ سنة ،2015 يقضي باستثناء مياه الأقاليم الجنوبية من الاتفاق سنة 2015، فالتزم المغرب سياسية الحزم نفسها، مع فتح المجال للحوار في الموضوع، والمؤشرات اليوم تسير في اتجاه تسوية الموضوع وإبطال قرار المحكمة عمليا وتجديد اتفاق الصيد البحري بنفس الشروط السابقة.
وضمن نفس الحالة، أي التهديد بالتحلل من شراكات، وبشكل غير مسبوق، عبر الموقف عن مواقف جد حازمة اتجاه شريكه الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية بعض مواقفها المستفزة خاصة ما يتعلق بضغطها على المنتظم الدولي من أجل إسناد مهمة مراقبة حقوق الإنسان لبعثة المينورسو، وظهور مؤشرات على سيناريوهات أمريكية لتهديد الاستقرار بالمغرب، فعبر المغرب في القمة المغربية الخليجية عن موقفه المقاوم واستقلالية قراره وحريته في نسج أحلافه، وتوجه نحو روسيا كخطوة تصعيدية لإنهاء الضغط الأمريكي.
على أن سياسة الحزم، بلغت أوجهها مع المنتظم الدولي، في أكثر من محطة، برزت الأولى سنة 2013، لما وقع الضغط على المنتظم الدولي لتوسيع مهام بعثة المينورسو لتشمل حقوق الإنسان، وهو ما رفضه المغرب بقوة، مستندا على تشجيع المنتظم الدولي للآليات الوطنية لمراقبة حوق الإنسان، وانفتاح المغرب على آليات منظومة حقوق الإنسان الدولية، وبرزت الثانية، مع الموقف الحازم الذي اتخذه المغرب ضد المبعوث الأممي لقضية الصحراء كريستوفر روس ورفض زياراته للصحراء، وذلك سنة 2015،معللا قراره بخروج مبعوث الأمين العام عن اختصاصاته وتجاوزه للمحددات التفاوضية المتفق عليها لإدارة الأمم المتحدة لهذا النزاع، بل وصل الأمر حد خوض معركة مع الأمين العام الأممي بان كيمون، وذلك حين صرح وتحدث عن «احتلال» المستعمرة الاسبانية السابقة التي ضمها المغرب في عام1975. وعلى الرغم من رغبة الأمين العام في احتواء الموقف وذلك بتعلل الناطق الرسمي باسمه ستيفاندو جاريك بخصوص سوء فهم لتصريحاته وأن «استخدام (بان كيمون) لكلمة «احتلال» لم يكن مخططاً له، كما لم يكن متعمداً، بل كان عفوياً ورد فعل شخصي»، إلا أن المغرب عبر مرة أخرى عن رفض هذا التوضيح، معتبرا ذلك دليلا واضحا على انحياز الأمين العام وخروجه عن قاعدة الحياد وانزياحه عن المحددات التفاوضية المتفق عليها أمميا لإدارة هذا الملف.
هذه السنة، انضاف مؤشران آخران يؤكدان إصرار المغرب على عدم الانفكاك عن سياسة الحزم، الأول ظهر من خلال تلويحه وتهديده باللجوء إلى الخيار العسكري في حالة عدم قيام الأمم المتحدة بمسؤوليتها في ردع جبهة البوليساريو وإرغامها على الخروج من المنطقة العازلة وتفكيك كل البنيات التي أحدثتها خارج مقتضيات الاتفاق العسكري المبرم بين الطرفين، أما الثاني، فتمثل في إقدام المغرب على قطع العلاقات مع إيران الثلاثاء الماضي على خلفية معطيات وأدلة دامغة تحدثت عنها وزارة الخارجية المغربية عن تورط سفارة إيران بالجزائر بتسهيل مأمورية قيادات عسكرية من حزب الله تقوم بدور تدريب جبهة البوليساريو في تندوف بدعم وإسناد جزائري.
الملفت في موقف المغرب، أنه حتى وهو ينزل سياسة الحزم على الأرض، يسلك كل الطرق لإقناع الأطراف الأخرى بمصداقية موقفه، فخلافا لقراره السابق بقطع العلاقات مع إيران سنة 2009، على خلفية حديث عن تورطها في أجندة التشيع في المغرب، جاء تحرك الخارجية المغربية هذه المرة مسنودا بقدر عال من المهنية والاحتراف، إذ حرص وزير الخارجية المغربي على زيارة طهران ووضع المعطيات والأدلة بين يدي وزير الخارجية الإيراني، ثم استدعاء السفير الإيراني بالرباط ووضعه أمام نفس المعطيات، وإصدار بيان واضح يوضح سبب قطع هذه العلاقات ويرفع الالتباس عن أي تأويل يمكن أن يلصق بهذا القرار من قبيل الخضوع لضغوط أمريكية أو خليجية، إذ أكد المغرب أن إعادته للعلاقات مع إيران تم في سياق مشحون بالخلاف الخليجي الإيراني، ومع ذلك لم يكن هذا السياق مانعا للمغرب من أن يتخذ قراره المستقل بهذا الشأن، وأن الأمر يرجع في قراره الأخير إلى المعطيات والأدلة المقدمة.
لحد الآن، وباستقراء نتائج سياسة الحزم، لم تؤثر هذه السياسة على علاقاته الدبلوماسية، فقد حافظ على شراكاته الاستراتيجية مع أمريكا والاتحاد الأوروبي، ولم تتأثر سلبا علاقاته مع روسيا، بل خففت علاقاته معها من أثر موقف موسكو المفترض داخل مجلس الأمن بخصوص قرار الأمين العام بشأن الصحراء.