معاداة السامية: معادلة مركبة الاتجاهات ومتشعبة المصالح في ألمانيا
الخصوصية التاريخية في العلاقة مع اليهود تزيد الأمور ضبابية، وما لغز “الكيباه” اليهودية التي تغطي رأسا من عرب إسرائيل.
الخميس
بين ألمانيا واليهود علاقات مرتبكة
أعلن جوزيف شوستر رئيس المجلس المركزي ليهود ألمانيا الثلاثاء الماضي، أن على اليهود تجنب ارتداء الرموز الدينية في هذا البلد بسبب تزايد مخاطر استهدافهم باعتداءات.
جاء ذلك بعد موجة من الاعتداءات طالت أفرادا من اليهود على خلفية معاداة السامية. ونصح شوستر في حديث مع الإذاعة العمومية في برلين، يهود ألمانيا البالغ عددهم حوالي 200 ألف بعدم ارتداء “الكيباه” أي القلنسوة التقليدية التي يضعها اليهود على الرأس في المدن الألمانية الكبيرة، ودعاهم إلى توخي الحيطة والحذر.
وكان شابان (21 و24 عاما) قد تعرضا للاعتداء بالضرب في شارع عام بحي بريتسلاوربرغ، بالعاصمة الألمانية برلين، وذلك بسبب ارتدائهما القلنسوة اليهودية، وتمكن الشاب المعتدى عليه من تصوير الواقعة التي تم تناقلها على مواقع التواصل الاجتماعي مما أثار موجة من السخط والغضب وردود فعل اجتماعية وسياسية حادة.
وقال أصغر الشابين المعتدى عليهما بالضرب، واسمه آدم، إنه ليس يهوديا، وإنما من عرب إسرائيل، مضيفا أنه سيواصل ارتداء “الكيباه” على رأسه بعدما قال له أصدقاء في إسرائيل إن الأمر خطير بالنسبة لهم عندما يظهرون علانية كيهود في شوارع ألمانيا.
وتابع “أردت أن أظهر أن الأمر ليس خطيرا، وكان وضع الكيباه تجربة بالنسبة لي”، لكن الأسوأ من وجهة نظره هو أن الكثير من الناس في محيط المكان توقفوا ولم يتقدم أحد منهم للمساعدة.
وأوضح آدم أنه ينحدر من أسرة لادينية من عرب إسرائيل في حيفا، ويدرس الآن في ألمانيا، لكنه يبحث لنفسه عن هوية دينية، مؤكدا “سأواصل ارتداء الكيباه، بصرف النظر عما يظنه آخرون حول هذا”.
كثيرون لا يترددون في ربط هذه الواقعة وما تحمله من ارتفاع مشاعر العداء للسامية بأجندات سياسية وحسابات انتخابية
محتوى الفيديو الذي صور الاعتداء وانتشر في شبكة الإنترنت يبلغ توقيته أقل من دقيقة، ويظهر شابا يافعا يضرب بحزام في يده شخصا عدة مرات، يقوم بتصويره، ويقول المعتدى عليه باللغة الألمانية “أنا أصورك”، ويكرر المعتدي بلغة عربية تشبه لكنة بلاد الشام “شيل الجوال” ثم يواصل الضرب وهو يقول “يهودي” ثم يُسمع صوتُ امرأة في الخلفية تتحدث بالإنكليزية قائلة إنها ستتصل بالبوليس، ثم يتدخل شاب لإبعاد صاحب الحزام.
ويذكر أن التحذيرات تتزايد من تنامي ما يعرف بـ”معاداة السامية” ليس في ألمانيا فحسب بل على نطاق أوروبي. وذكر تقرير، شارك في إعداده “المؤتمر اليهودي الأوروبي” حول معاداة السامية على مستوى العالم نشر منذ يومين، أن كلمة “يهودي” أصبحت تستخدم بشكل متزايد على مستوى العالم كإساءة، مع عودة معاداة السامية التقليدية للظهور.
وحذر التقرير من أن معاداة السامية تتكون من العناصر اليمينية في بلاد مثل ألمانيا والنمسا وجماعات الإسلام الراديكالي وخطاب معاداة الصهيونية في جناح اليسار، مشيرا أيضا إلى اتهامات بمعاداة السامية في حزب العمال البريطاني.
وقال رئيس المؤتمر اليهودي الأوروبي فياتشيسلاف موشيه كادار، “العيش كيهودي في الكثير من مناطق أوروبا يعني العيش في قلعة، والتصنيف كشخص مختلف”.
وحذّر عشية تظاهرة تضامن مع يهود ألمانيا في برلين من أنه إذا رفض الألمان الوقوف ضد العداء للسامية فان “ديمقراطيتنا ستكون في خطر”.
وقال “الأمر لا يتعلق فقط بمعاداة السامية، إنما يتوازى ذلك مع العنصرية والرهاب من الأجانب.. أنت تحتاج إلى إشارة وقوف .
ومن جانبها، أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عزمها على مكافحة معاداة السامية في بلادها. وفي أعقاب اجتماعها مع رؤساء حكومات الولايات الشرقية، قالت ميركل في مدينة باد شميدربيرغ، إن ما حدث “واقعة مفزعة”، وأضافت أن الحرب على أعمال الشغب المعادية للسامية “يجب كسبها”.
وأشارت ميركل إلى أن مثل هذه الظاهرة موجودة سواء بين المواطنين الألمان أو الألمان المنحدرين من أصول عربية، وطالبت بالتصدي لمثل هذا الأمر بكل شدة وحسم.
وفي إطار ردود الفعل حول حادثة الاعتداء على الشابين في أحد شوارع برلين، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، في تصريحات صحافية “حين يُهاجَم شابان في ألمانيا لمجرد وضعهما القلنسوة اليهودية فإن الأمر يخرج عن نطاق التحمل. يجب ألا يشعر اليهود بالتهديد مجددا في ألمانيا”. وأضاف الوزير الألماني “نتحمل مسؤولية حماية الحياة اليهودية”.
أما الأمينة العامة لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، أنجريت كرامب-كارنباور، فقالت في تصريح لصحيفة “برلينر تشايتونغ” إن وجود مثل هذه الحالات في ألمانيا، يعد عارا ومثيرا لبالغ القلق، مضيفة “يجب مكافحة معاداة السامية بكل القوى والعواقب الممكنة، بغض النظر عن مصدرها”.
وكان رئيس المجلس الأعلى لليهود في ألمانيا جوزيف شوستر، قد قال إنه أصيب بالفزع والهلع عندما سمع بهذه الواقعة. وأضاف أنه يأمل في أن يتم التعرف على المعتدي من خلال المقطع الموضوع على هاتف المُعتدى عليه.
وأثار عدد من الحوادث في الأشهر الأخيرة القلق من احتمال عودة مشاعر العداء للسامية في ألمانيا، سواء من جانب اليمين المتطرف أو اللاجئين الذين تدفقوا منذ عام 2015 وغالبيتهم من المسلمين.
وكانت وزارة الداخلية الألمانية قد أعلنت أن مجلس الوزراء الألماني قرر الأربعاء 11 أبريل 2018 خلال اجتماع بقصر ميسبرغ في ولاية براندنبورغ، تعيين فيليكس كلاين “مفوضا للحياة اليهودية في ألمانيا ومكافحة معاداة السامية”. ومن المقرر أن يتولى كلاين البالغ من العمر 50 عاما منصبه في وزارة الداخلية في الأول من مايو المقبل.
وكان الائتلاف الحاكم المكون من التحالف المسيحي بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، اتفقا في معاهدة الائتلاف على استحداث هذا المنصب في ظل تزايد الجدل حول معاداة السامية. وقال وزير الداخلية هورست زيهوفر “كلاين اهتم على نحو مكثف خلال السنوات الأخيرة بالحياة اليهودية في ألمانيا ويتمتع بمكانة عالية بين المواطنين اليهود في ألمانيا وخارجها”.
حلقات تحتاج إلى ربط
المؤشرات والتحقيقات المتوفرة تؤكد أن الشاب الذي هاجم صاحبي القلنسوة اليهودية بحزامه في أحد شوارع برلين، كان مسلما سوريا وعمره 19 عاما. أما العبارة التي نطق بها فكانت تنم، بما لا يدع مجالا للشك، عن كره ومعاداة لليهود في البلد الذي شهد المحرقة التي قضى فيها النازيون على ما يقارب 6 ملايين يهودي أوروبي أثناء الحرب العالمية الثانية.
في تظاهرة ‘برلين ترتدي الكيباه’ تحدث رئيس بلدية المدينة مايكل موللر وشوستر خلال هذه المناسبة لطمأنة اليهود
النقطة التي ينبغي التوقف عندها هي الفيديو المصور من الهاتف الجوال، والذي يقارب الدقيقة الكاملة، وعملية انتشاره الواسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وما خلفه من سيول جارفة من الإدانات وردود الفعل المستنكرة، والتي من شأنها أن تصب الزيت على النار.. كل هذا يطرح أكثر من سؤال عند كل من يحاول التحقق في الأمر، ويقرن بين هذه الحادثة المفزعة وبين الجهات المستفيدة من ورائها.
مراقبون ومحللون كثيرون لا يترددون في ربط هذه الواقعة وما تحمله من ارتفاع مشاعر العداء للسامية بأجندات سياسية وحسابات انتخابية داخل ألمانيا وأوروبا عموما.
كما لا يمكن فصل هذه الحادثة عن الجدل القائم حول سياسة التعامل مع تدفق المهاجرين الذين ألصقت بهم شبهة التطرف والإرهاب، وبلهجة فيها الكثير من التعسف والتعميم والإجماع.
هذه الريبة من المهاجرين القادمين من سوريا على وجه الخصوص، أكدتها حوادث هنا وهناك، شكلت “إحراجا” للمستشارة الألمانية التي طالما رأى فيها المهاجرون “الأم الرؤوم” عند بداية تساهلها مع الحشود اللاجئة إلى ألمانيا، وسخر منها وانتقدها خصومها اليمينيون، وها هي ميركل تقول اليوم بعد الواقعة، في مقابلة مع قناة تلفزيونية إسرائيلية “لدينا ظاهرة جديدة، فهناك بيننا العديد من اللاجئين على سبيل المثال من أصول عربية يحضرون معهم شكلا جديدا من معاداة السامية إلى البلاد”.
المستشارة الألمانية أدانت ما أسمته “شكلا آخر من العداء للسامية” من قبل اللاجئين المسلمين، إلى جانب ذلك الموجود لدى جماعات اليمين المتطرف. هذا الأمر يزيد الأمور تعقيدا وإرباكا، فميركل تواجه غلاة اليمين الذين يعادون بدورهم اليهود والمسلمين الذين بدورهم تربطهم علاقة تشوبها الكراهية والعداء لدى المتطرفين منهم، وذلك على خلفية الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي.. هذا الخلاف السياسي الحاصل بسبب الاستيطان، تحول إلى خلاف ديني لدى المتشددين من المسلمين واليهود.
ومن جهته وصف المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا معاداة السامية بأنها “خطيئة”. وقال رئيس المجلس أيمن مزيك، في تصريح نقلته قناة ألمانية، إن “معاداة السامية، العنصرية والكراهية، هي ذنوب في الإسلام، ولهذا لن نتسامح معها أبدا”.
وعلَّق مزيك على تصريح المستشارة ميركل بالقول، إنه جاء “واضحا كالعادة”، لأنها أكَّدت أن العداء لليهودية لم يأت فقط مع مجيء اللاجئين إلى ألمانيا. وقال إن إحصائيات الجريمة تشير إلى ذلك، إلا أنه أوضح “نأخذ العداء لليهود بين بعض اللاجئين على محمل الجد”.
وأثار عدد من الحوادث في الأشهر الأخيرة القلقَ من احتمال عودة مشاعر العداء للسامية في ألمانيا، سواء من جانب اليمين المتطرف أو اللاجئين الذين تدفقوا منذ عام 2015، وغالبيتهم من المسلمين.
وسط كل هذه التقارير الصحافية التي انتشرت مؤخرا وتحدثت عن موجات جديدة من معاداة السامية في ألمانيا شملت مدارس العاصمة برلين وحتى شوارعها في وضح النهار كما بينت واقعة الاعتداء على الشابين صاحبي القلنسوة اليهودية، ظهرت لفتة طيبة قد تخفف الاحتقان، وتتمثل في أن سياسيا من أصول فلسطينية مسلمة، رئيس الكتلة البرلمانية لأقوى أحزاب ولاية برلين، الحزب الاشتراكي الديمقراطي رائد صالح، ورئيس الجالية اليهودية في برلين جدعون جوفي، قد أطلقا مبادرة لإعادة ترميم كنيس يهودي كان قد دمره النازيون.
ويأمل رائد وجدعون في جمع تبرعات لإعادة بناء الكنيس كـ”مكان للعبادة وللقاء أبناء الحيّ من كل الأديان ومن غير المؤمنين بأي دين”، حسب تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية. ويحدد رائد وجدعون الهدف من مبادرتهما بأنه “بعث رسالة كياسة وطمأنة”، في وقت يتعمق فيه انعدام الثقة في المجتمع بفعل تزايد الإسلاموفوبيا والموجة الجديدة من معاداة السامية.
ويقول رائد صالح، الذي ينحدر من عائلة فلسطينية من الضفة الغربية ويعيش في ألمانيا منذ أن كان في الخامسة من عمره، “لن أكون مسلما صالحا إن لم أدافع عن اليهود في موطني برلين ولن يكون المسيحي مسيحيا صالحا إن لم يتدخل عند محاولة أحدهم نزع حجاب امرأة”.
وردا على ما ورد في التقارير من تخوفات تخص العيش المشترك بين اليهود والمسلمين في ألمانيا، اقترح المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا إرسال أئمة إلى المدارس.
قال رئيس المجلس أيمن مزيك “في البداية نخصص عشرة أئمة جاهزين ويفضل أن يذهبوا إلى الفصول الدراسية برفقة حاخامات”. وتابع “رجال الدين سيدعون إلى الحوار والتنوير والاحترام المتبادل”. كما أوضح رئيس المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا أنه سيكون سعيدا لو شاركت الجمعيات اليهودية في هذا الأمر، مضيفا “عندئذ يمكننا أن نبدأ اليوم في برلين ثم في أعقاب ذلك نتوسع في كافة أنحاء ألمانيا”.
وللمزيد من زرع الأمل في نفوس يهود ألمانيا، أكدت ميركل أن أمن اليهود مصدر اهتمام رئيسي بسبب “مسؤوليتها الدائمة” عن المحرقة اليهودية في الفترة النازية.
ويذكر أن برلين تجذب اليوم العديد من الشباب الإسرائيليين. الكثير منهم يزور برلين لجاذبيتها الفنية والثقافية وآخرون يحطون الرحال فيها لأسباب سياسية. وهناك 10 آلاف إسرائيلي يعيشون في برلين، ولا تلعب خلفيتهم الدينية اليهودية أي دور هام بالنسبة للكثيرين، ومع ذلك يحملون معهم ثقافة يهودية جديدة إلى برلين. ويظهر ذلك من خلال المطاعم والمعارض الفنية والنوادي الليلية.
وبعد حادثة الهجوم بالحزام دعا اليهود في العاصمة الألمانية إلى تظاهرة “برلين ترتدي الكيباه”، وتحدث رئيس بلدية المدينة مايكل موللر وشوستر خلال هذه المناسبة لتهدئة النفوس وطمأنة اليهود والتأكيد على أن ألمانيا لن تعود أبدا إلى تلك الحقبة المظلمة من ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.
والأهم من ذلك هو سن قوانين رادعة لعل أهمها بالنسبة لليهود هو تأييد الداخلية الألمانية لقانون سحب إقامة “مجرمي معاداة السامية”، لكن هذا قد يخلق ثغرات وإشكاليات عديدة وجديدة في نظر مراقبين ومحللين.