أزمات الداخل تثقل كاهل الاتحاد الأوروبي
إصلاحات إيمانويل ماكرون.. استراتيجيات واقعية أم طموح لم يعد يحفز أوروبا المنهكة.
معا نبني قوة أوروبية نافذة
يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تسريع رؤيته لإدخال إصلاحات جذرية في عمل الاتحاد الأوروبي، حيث بات يعتبر أن المشروع الأوروبي يتعرض لتحديات حقيقية تتطلب مقاربات خلاقة وأكثر فاعلية لإنقاذ الاتحاد من أعراض الوهن وظواهر التطرف التي تتقدم داخله في السنوات الأخيرة.
ويمر الاتحاد الأوروبي بتحولات مصيرية، وعلى الرغم من تحقيق بعض التقدم وتراجع الحديث عن تفكك الكتلة الأوروبية، إلا أنه لم يتم حل المشكلات الهيكلية التي تحف بالاتحاد الأوروبي، وحتى المحرك الدافع للطموح بالنسبة إلى أوروبا، أي تراجع اهتمام أميركا بلعب دور الضامن الأساسي للنظام الدولي، فإنه بقدر ما يجلب فرصا يجلب كذلك مخاطر وتحديات.
ووصل الرئيس الفرنسي الخميس إلى برلين لمناقشة التوجه المستقبلي للاتحاد الأوروبي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وكان ماكرون حذر، الثلاثاء، متوجها إلى البرلمان الأوروبي في ستراسبوغ، من “النزعات إلى التسلط” في أوروبا، داعيا مقابل ذلك إلى “الدفاع بحزم” عن “مفهوم جديد للسيادة الأوروبية”.
وعرض أمام قاعة مكتظة بالنواب صورة قاتمة للوضع في القارة، على خلفية تصاعد النزعات الشعبوية والمشاعر المعادية لأوروبا في عدد من بلدان الاتحاد.
ويحمل ماكرون أملا جديدا للاتحاد الأوروبي لكنه يحتاج إلى إقدام كامل من قبل شركائه في الاتحاد الأوروبي، لا سيما ألمانيا، وما يطرحه من أفكار تعيد قراءة آليات هذا الاتحاد ومساحات حضوره بما يتطلب نقاشا معمّقا داخل كل دولة عضو. ويضيف هؤلاء أن الأوروبيين يتحسّسون من أي هيمنة فرنسية ألمانية قد تلوح على البيت الأوروبي، كما أن باريس وبرلين تتحسسان من سعي كل منهما لفرض أجنداتها على الاتحاد.
وعلّق رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، في كلمة ألقاها بعد ماكرون، معلنا “فرنسا الحقيقية عادت. أرحب بعودة فرنسا إلى صفوفنا”. لكنه أضاف “دعونا لا ننسى أن أوروبا ليست فرنسية ألمانية حصرا” بل “ينبغي أن يتمكن المحرك من العمل بمساهمة (البلدان) الأخرى”.
ويقر برلمانيون أوروبيون بأن الاتحاد الأوروبي تعرض لهزة كبرى بعد الاستفتاء البريطاني على الخروج من النادي الأوروبي، وأن البريكست وجه ضربة للأوروبيين ودفعهم إلى الاستفاقة دفاعا عن المشروع الأوروبي، على النحو الذي يدفع ماكرون إلى تقديم مبادراته.
وخلط انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة وتشكيكه بالتحالف الغربي المعتمد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أوراقا كثيرة وأثار مسائل وجودية داخل الاتحاد لم تكن موجودة قبل ذلك. وكان ماكرون عرض بعد فوزه بالرئاسة، في خطاب ألقاه في جامعة السوربون، ثمانين مبادرة من أجل “إعادة تأسيس أوروبا”، داعيا بصورة خاصة إلى تعزيز منطقة اليورو وتعميم برنامج إيراسموس للمنح الدراسية وفرض ضرائب على شركات الإنترنت العملاقة.
ماكرون يحمل أملا جديدا للاتحاد الأوروبي، لكنه يحتاج إلى إقدام كامل من قبل شركائه في الاتحاد الأوروبي لا سيما ألمانيا
لكن هذه الطموحات تصطدم حتى الآن بالأزمة السياسية التي واجهتها ألمانيا لفترة طويلة ونتائج الانتخابات الأخيرة في إيطاليا والمجر وقد فازت فيها أحزاب مشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي.
وأعاد الاتحاد الأوروبي اكتشاف روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، وأعاد الصراع في أوكرانيا شبح الحرب الباردة إلى قلب القارة الأوروبية في وقت لا يبدو التضامن الأطلسي على ما كان عليه أيام الحرب الباردة حتى انهيار الاتحاد السوفييتي.
ويدفع الاتحاد الأوروبي ثمن القلاقل في الشرق الأوسط من خلال موجات الهجرة والإرهاب، كما يدفع ثمن عدم التوصل إلى تسوية تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. وحتّم عجز واشنطن عن تولي حل النزاعات في تلك المنطقة على أوروبا انتهاج سياسات ذات دينامية عالية يحاول الرئيس الفرنسي أن يكون وجها بارزا من وجوهها.
ويقول برلمانيون فرنسيون إن عجز الغرب عامة في العقود الأخيرة عن معالجة أزمات الشرق الأوسط وعجزه في السنوات الأخيرة عن إدارة ملف الهجرة بشكل خلاق، أفضى إلى ازدهار التيارات الشعبوية ووفر لها بيئة حاضنة تنشط داخلها.
ويضيف هؤلاء أن تبني ترامب للكثير من شعارات هذه التيارات التي كانت تعتبر هامشية في أوروبا، منح الشعبوية واليمين المتطرف غطاء ما فوق أوروبي يفسر تحقيق هذه التيارات اختراقات مقلقة في عدد من الدول الأوروبية وشجع مناطق داخل الدول الأوروبية على رفع سقف المطالبة بالاستقلال على منوال تجربة كتالونيا في إسبانيا.
واقترح ماكرون في خطابه “تحرير الجدل المسموم” بشأن إعادة نقل اللاجئين من الدول التي تضم أعدادا كبيرة منهم، إلى الدول الأقل تأثرا بحركات الهجرة، إلى جانب قوانين دبلن المثيرة للجدل بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، والتي تقول إن الدولة التي وصل إليها طالب اللجوء في البداية مسؤولة عن التعامل معه.
واعتبر الرئيس الفرنسي أن حل هذه المعضلة يتم من خلال “إنشاء برنامج أوروبي لتقديم مساعدة مالية مباشرة للسلطات المحلية التي تستضيف اللاجئين وتعمل على دمجهم”.
وأعلن ماكرون أن بلاده “مستعدة لزيادة مساهمتها” في الميزانية الأوروبية في إطار الميزانية المقبلة للاتحاد الأوروبي للفترة التي تبدأ عام 2021، لكنه أضاف “علينا من أجل ذلك أن ندرس إعادة تأسيس الميزانية نفسها”، مقترحا بصورة خاصة إلغاء التخفيضات “التي لا يمكن أن تستمر بعد البريكست”.
ورد رئيس تكتل الحزب الشعبي الأوروبي، القوة السياسية الرئيسية في برلمان ستراسبورغ، مانفريد فيبر على ماكرون، داعيا إلى “ديمقراطية برلمانية قوية” لأنه “إذا تجاهلنا أمنيات المواطنين، فإن المواطنين سوف يتجاهلوننا”.
كان رد النائب الأوروبي البلجيكي عن الخضر فيليب لامبرتس أشد لهجة إذ انتقد بحدة “عمل فرنسا” في عهد إيمانويل ماكرون، معتبرا أنه “يسيء إلى شعار (حرية، عدالة، أخوة)”، منتقدا مبيعات الأسلحة والبرنامج النووي وإخلاء مخيمات اللاجئين.
ويرى برلمانيون في ألمانيا أن مبادرات ماكرون سترفع من منسوب الجدل داخل ألمانيا كما من مستويات السجال بين برلين وباريس. ويضيف هؤلاء أن هذا الجدل هو ضروري ويعبّر عن حيوية أوروبية داخلية على طريق الاهتداء إلى نقطة توازن جديدة تنقل الاتحاد من طور إلى آخر.
ورغم تحفظات بعض الأصوات الألمانية على مقترحات ماكرون، إلا أن ألمانيا التي تحملت العبء الأساسي من موجات الهجرة في السنوات الأخيرة والتي عانت بعد الانتخابات الأخيرة من مخاض مؤلم لتشكيل الحكومة، تحتاج إلى ترشيق الاتحاد وتطوير مفاعيله، وربما تحتاج أيضا إلى خطوات جريئة يتولى ماكرون الدفع بها والتبشير بمنافعها.