سوريا.. حرب عالمية مصغرة
الضربة العسكرية الغربية في سوريا نقطة توقف عن قتل السوريين بين جميع الأطراف ليوم واحد فقط، قبل أن يعود العمل نفسه بشكل طبيعي. لكن الجديد في هذه الضربة هو إعلان انتهاء حالة الاسترخاء الاستراتيجي في الغرب، وبدء تحجيم روسيا.
انتهاء حالة الاسترخاء الاستراتيجي في الغرب
لم يكن ما حدث يوم السبت سوى بيان إعلامي أخذ منحى عسكريا. هذا هو التفسير الوحيد لضربة طالت الجدران فقط في القواعد العسكرية والمنشآت الكيمياوية التي استهدفتها. إن لم يكن هذا هو الحال، فما معنى أن تفسح روسيا، ومعها النظام السوري، الطريق أمام الصواريخ والطائرات الغربية، ثم نجد الرئيس بشار الأسد في اليوم التالي داخلا إلى مكتبه على قدميه، وكأن شيئا لم يكن؟
الأسد لا يزال يمشي على قدميه لأن الروس والإيرانيين لا يزالون متمسكين بقرار إسناده. ربما اللقطة الوحيدة التي لم تر فيها إيرانيين وروسا هي لقطة عودة الأسد إلى مكتبه. لكن إذا نظرت في كل مكان آخر في سوريا فلن ترى سوى إيرانيين وروس.
هذا هو السبب الحقيقي وراء ردة فعل روسيا الهادئة والمتدرجة على الضربة، وهو أنها تكاد تكون مشاركة في كل مراحل هذه الضربة، عدا مرحلة الضغط على زر إطلاق الصواريخ. عدا ذلك، روسيا كانت شاهدة على خطوات صنع القرار الغربي، والخلافات التي نشأت بشأنه، وطبيعة الأهداف، والمدة الزمنية التي ستستغرقها الضربة، ونوعية الأسلحة والصواريخ المستخدمة فيها.
ديناميكية التنسيق الغربي مع روسيا في لحظات التماس المباشر نابعة من فهم الجانبين بأن ما يجري في سوريا هو “حرب عالمية” مصغرة. هذا يعني، كما يقال بالإنكليزية، إن ما يحدث في سوريا يجب أن يبقى في سوريا.
روسيا والغرب توصلا إلى قنـاعة بتحويل سوريا إلى هدف رماية يرد فيه الغرب والروس على بعضهما البعض، ضمن سجال أوسع نطاقا، يشمل مناطق أخرى من العالم. فإذا حدث خروج عن الخطوط الحمراء في شرق أوكرانيا مثلا، سنشهد ردا غربيا على روسيا في سوريا، كما حدث بالضبط بعد استهداف العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال وابنته على أراض بريطانية. وإذا وجدت روسيا أن الغرب بالغ في معاقبتها، فسيدفع الثمن السوريون الذين مازالوا يعيشون في مناطق سيطرة المعارضة.
هذا الواقع يحوّل سوريا إلى “ماكيت” (نموذج صغير) لشكل النظام العالمي الجديد الذي تتغير قواعده بوتيرة متسارعة.
الضربة العسكرية، التي قادتها الولايات المتحدة وشاركت فيها بريطانيا وفرنسا، هي جانب واحد من النظام العالمي الجديد. الغرب، عبر تحرّك منسق ومتجانس، أراد إيصال رسالة إلى روسيا. الرسالة وصلت بالفعل، لكن في الوقت نفسه كل من الأطراف الثلاثة المشاركة في هذا التحرّك أراد الإعلان عن موقف منفرد، يوضح رؤيته الذاتية، من خلال عمل جماعي.
ظهرت الولايات المتحدة بعقلية جديدة تعتمد سياسة أكثر تشددا حيال روسيا، أعرب عنها وزير الخارجية المعيّن مايك بومبيو الأسبوع الماضي أمام الكونغرس، عندما قال إن أيام السياسة الناعمة تجاه روسيا ولت. فرنسا تريد إعادة التموضع في المنطقة، بالتزامن مع تبنيها استراتيجية جديدة بنيت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. جوهر هذه الاستراتيجية هو أن فرنسا هي القائد الجديد للاتحاد، وقوته العسكرية الضاربة، سواء ضمن الناتو أو مشروع الجيش الأوروبي الذي يقوده الرئيس إيمانويل ماكرون.
أطراف الصراع السوري يختلفون على توزيع حصص النفوذ؛ التمدد الإيراني، وأمن إسرائيل، ومدى استمرار الحرب، و نوعية الأسلحة التي سيستمر قتل الأبرياء بها، لكنهم جميعا باتوا متفقين على بقاء نظام الأسد
أما بريطانيا فأصبحت دينامو أيّ تحرك ضدّ روسيا في أيّ مكان في العالم. هذا ليس مستغربا. في ظل تصاعد قضية سكريبال، وسعي لندن لتبني عقيدة “بريطانيا العالمية” فيما بعد بريكست، وتأثير ذلك على تحول العلاقة مع الولايات المتحدة إلى أكثر من “خاصة”، لم يكن ثمة خيار آخر أمام البريطانيين سوى المشاركة، لتوجيه رسالة إلى روسيا وإلى فرنسا في نفس الوقت. الرسالة البريطانية إلى روسيا تتضمن وضع إطار لتحركات موسكو على المسرح العالمي، ووضع إطار مماثل لتطوّر العلاقة بين ماكرون ونظيره الأميركي دونالد ترامب. البريطانيون ينظرون بريبة إلى تطور هذه العلاقة، وإذا مددت الخط التاريخي إلى آخره، ستجد أن لهم حقا في ذلك.
إذن هذه الضربة العسكرية لم تكن لها علاقة بسوريا. لم يخدع الغرب أحدا. الضربة كانت موجهة إلى المنشآت الكيمياوية وإلى روسيا فقط. لم يستهدف الغرب النفوذ الإيراني، ولم يقلص القدرات العسكرية للجيش أو الميليشيات المساندة له، وأبقى على محدودية الضربات حرصا على عدم الضغط بشكل قد يقود إلى سقوط النظام.
مشكلة سوريا اليوم هي أن كل الأطراف المتورطة في الصراع السوري باتت تختلف على توزيع حصص النفوذ، وحجم التمدد الإيراني، وترتيبات ضمان أمن إسرائيل، ومدى استمرار الحرب في المستقبل، والسجال حول نوعية الأسلحة التي سيستمر قتل الأبرياء بها، لكنها جميعا باتت متفقة على بقاء نظام الأسد.
دعك من أي كلام آخر يصدر عن الغرب حول ضرورة محاسبته أو تغييره. هذا منتج يمكن بيعه للداخل، الذي ينظر إلى الأمور في منطقتنا من منظور أخلاقي فقط. لكن رغم إعادة الحديث عن مسار جنيف، من قبل وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، وقبلهما وزير الدفاع الأميركي، يبدو الأمر مناورة لإعادة رسم “الخط الأحمر” لروسيا، ونزع الشرعية الغربية عن الحل العسكري الذي تتبناه موسكو.
المسؤولون الغربيون يدركون أن الرد الروسي الهادئ بعد الضربة لا يعني حقيقة موقف الرئيس فلاديمير بوتين. هذا الموقف، في مضمونه، هو هدوء يسبق العاصفة.
ستهب العاصفة قريبا، إما على ريف حماة أو ريف حمص أو إدلب أو درعا أو القلمون. المهم أن الروس مازالوا لم يردوا بعد على “صفعة” الغربيين، لكنهم يدرسون ذلك. الرد الروسي في جوهره سيكون موجها للغرب، لكن في الواقع سيدفع السوريون الثمن.
مشكلة الغرب أنه يريد تبني مقاربة مجانية عند الحديث عن الحل السياسي، لذلك فهو لا يتبنى أي استراتيجية فعالة في سوريا. الحل السياسي يتطلب استثمارا طويل الأمد، لا يبدو أن العواصم الغربية مستعدة له.
عناصر هذا الاستثمار تبدأ بتوزيع النفوذ، وإعادة تأهيل مسار جنيف، بعد انتهاء صلاحية القرار 2254 وبيان جنيف1. المشكلة الأخرى تتمثل في انتهاء المعارضة تماما، وفقدان الغرب الثقة بها. هذا سيفرض إعادة تأهيل المعارضة كي تكون قادرة على التفاوض مع الأسد، الذي يعتبر نفسه منتصرا.
المشكلة الأكبر تكمن في 6.5 مليون نازح في الداخل، و5.6 مليون لاجئ في دول أوروبا ودول الجوار. أي حديث عن إعادة هؤلاء إلى سوريا، معناه إعادة الجدل حول المناطق الآمنة مرة أخرى، وهو ما يتطلب استثمارا عسكريا غربيا طويل الأمد لإنشاء وحماية هذه المناطق.
لكن ليس الغرب وحده من لا يملك استراتيجية في سوريا. روسيا أيضا ليس لديها القدرات الكافية التي تمكنها من تحويل سياسة الأرض المحروقة، التي تبنتها منذ التدخل في الصراع في شتنبر 2015، إلى تسوية تفضي لحل نهائي. ليس غريبا أن يحرص الغرب على إبقاء روسيا أسيرة ورقة الكيمياوي، وإعادة الإعمار. يكفي واشنطن وحلفاءها التعهد بعدم دفع دولار في إعادة بناء أي منطقة تقع تحت حكم النظام، كي تذهب كل تطلعات بوتين وخامنئي والأسد هباءً.
الضربة العسكرية الغربية في سوريا نقطة توقف عن قتل السوريين بين جميع الأطراف ليوم واحد فقط، قبل أن يعود العمل نفسه بشكل طبيعي. لكن الجديد في هذه الضربة هو إعلان انتهاء حالة الاسترخاء الاستراتيجي في الغرب، وبدء تحجيم روسيا.