يوم الأرض ينعي صفقة القرن قبل إعلانها
المعطيات الجديدة تستوجب تعاملا مختلفا يقود إلى إنهاء الكلام عن صفقة القرن، أو تعديلها بما يتواءم مع المستجدات، والتي تشي بأن إسرائيل ربما تواجه ربيعا فلسطينيا يجبرها على دخول تسوية مجهولة.
صفقة “ترامب” تواجه مأزقا كبيرا يمكن أن يؤدي إلى طيّ الحديث عنها
مضى ما يقرب من ستة أشهر والحديث لم يتوقف عن الصفقة السرية التي أعدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأكدت التسريبات التي راجت أنها سوف تضع القضية الفلسطينية على طريق الحل النهائي.
بصرف النظر عن سياسة الإثارة والغموض التي تتبعها إدارة ترامب حول الصفقة، فهي لن تحقق طموحات الفلسطينيين والإسرائيليين، رغم كل ما قيل عنها من انحياز سافر إلى الجانب المناهض للحقوق المشروعة. إسرائيل التي تضع يدها على غالبية أرض فلسطين التاريخية لن تقبل التفريط في شبر واحد منها، إلا إذا حصدت ثمنا باهظا، وحتى قرار نقل السفارة الأميركية للقدس في مايو المقبل، والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، هناك تفسيرات أبعدته عن الرؤية المعلنة، عندما أشارت لعدم حسم القرار، أي قدس يتحدث عنها بالضبط؟
التأويلات الكثيرة ليست هي السبب الذي يقف عائقا أمام الإعلان عن حقيقة صفقة القرن، لكن الواقع نفسه الذي تصور من فرشوا الأرض بالرمال أمام ترامب هو من يقف عائقا في طريق الإعلان عن الصفقة وتطبيقها. الواقع الشعبي أصبح ضاغطا أكثر من أي وقت مضى. الأحداث التي شهدتها الأرض المحتلة خلال الأيام الماضية، والقوة الغاشمة التي استخدمتها قوات الاحتلال، تؤكد أن القضية الفلسطينية لا تزال حية في الوجدان، حتى لو لم ترتفع القيادات والزعامات إلى مستوى المسؤولية المطلوبة.
أهمية الفورة الجديدة، ليست في اكتشاف جيل شرس من الفلسطينيين على استعداد للصمود والمواجهة، لكن في احتمال أن تؤدي إلى تغيير قناعات كثير من القوى الفلسطينية
اللافت أن الشباب الذين خرجوا يوم الأرض للتظاهر وصمدوا في وجه الاحتلال وسقط منهم شهداء، يصعب تصنيفهم أو وضعهم في بوتقة فصيل سياسي أو حركة مسلحة. هؤلاء تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين يواصلون مسيرة من سبقوهم، وموقفهم المفاجئ له تداعيات مؤلمة على القوى الفلسطينية التقليدية.
الجيل الجديد يمكن أن يغيّر معادلة الاستقطاب الراهنة، وتمثل فتح وحماس ومعهما فصائل أخرى أطرافها الرئيسية، وهو ما يكشف عن تحولات كبيرة قادمة في المشهد الفلسطيني لم يلتفت لها كثيرون.
التحوّلات المقبلة نتيجة طبيعية للطريقة السياسية المؤلمة التي تتعامل بها الفصائل مع الواقع المرير منذ سنوات، وأدت إلى انسداد خطير استفادت منه إسرائيل، وتعطلت بموجبه عملية التسوية، وتحاول الولايات المتحدة توظيفه لتمرير صفقة القرن، مستفيدة من البؤس الإنساني في الأرض المحتلة، وعقم المقاومة المسلحة، وانغلاق الأفق السياسي بين القوى الفلسطينية.
الصفقة المنتظرة تلقت ضربات كبيرة خلال الأسابيع الماضية ستلعب دورا مهما لإعادة النظر فيها وربما تأجيلها. أصحابها لم يفاجؤوا برد الفعل الفلسطيني المبالغ فيه من الرئيس محمود عباس أو الناقم من الحركات المختلفة، أو الإسرائيلي المتشبث بكل ألوان الاحتلال، لكنهم فوجئوا بجملة مواقف في غاية الأهمية.
الأول: المجتمع الدولي الذي ظهر في مجلس الأمن والأمم المتحدة أكثر تماسكا، وتحدت فيه الأغلبية الساحقة الغطرسة الأميركية في أجلى صورها، الأمر الذي فهم منه أن هذه القضية حية في ضمير العالم، والأزمات والصراعات التي جاورتها في المنطقة، ومحاولات إسرائيل والولايات المتحدة للتشويش، أخفقت في تغيير التوجهات نحو فلسطين.
كما أن الاهتمام الأوروبي والروسي، انتقل من زاوية السند والداعم للموقف الأميركي، إلى مربع الاستقلال والبحث عن آليات ناجحة للتسوية، ترفض القفز على الواقع الراهن وتعقيداته.
وسواء كان موقف هؤلاء نابعا من اتساع الهوة مع واشنطن واستغلال الضعف الذي ظهرت عليه تصرفاتها في المنطقة، أو رغبة في تسوية مستقرة، فإنه في الحالتين ثمة رسالة وصلت إلى الرئيس الأميركي مفادها أن صفقة القرن مشروع محفوف بالمخاطر، بدلا من أن يضيف إليه كرجل يسعى للسلام، يمكن أن يصبح رجلا فتح الباب لعودة الحرب.
الثاني: الأوضاع الإنسانية السيئة في الأراضي المحتلة وما وجدته من تعاطف من دول ومنظمات عالمية كثيرة، ناهيك عن العقوبات التي لوحت بها واشنطن كانتقام من موقف الرئيس محمود عباس، أوحت أن الإدارة الأميركية غير معنية بالقضية واهتمامها منصب على مزيد من التضييق لتهيئة الظروف المناسبة لتمرير الصفقة.
التصور الأميركي في هذه المسألة، بناه أصحابه على أن تصاعد حدة الأزمات الإنسانية في غزة، يجبر أهلها على القبول بأي لقمة تبدو سائغة يمكن أن تلقي بها أميركا أو غيرها لهم، وربما يكون التركيز على الأوضاع المتردية في القطاع هدفه إقناع القوى السياسية والمسلحة والشعبية بقبول صفقة القرن كحل يمكن أن ينقذ الفلسطينيين من الموت جوعا.
الجيل الجديد يمكن أن يغيّر معادلة الاستقطاب الراهنة، وتمثل فتح وحماس ومعهما فصائل أخرى أطرافها الرئيسية، وهو ما يكشف عن تحولات كبيرة قادمة في المشهد الفلسطيني لم يلتفت لها كثيرون
التقدير عندي أن تزايد الحديث عن هجرة جديدة للفلسطينيين باتجاه الخارج، غرضه الإمعان في تضخيم المأساة الإنسانية في الداخل، لتكون التربة مستعدة لتقبّل أي حل قد يوقف النزيف الإنساني، لكن الرياح جاءت في يوم الأرض، بما لا تشتهي سفن أميركا وإسرائيل ومن تصوروا أن القضية الفلسطينية أوشكت على غلق أبوابها.
الثالث: موقف الشباب في الأراضي المحتلة وقدرته على إحياء القضية من جديد، مع أن هناك كثيرين استعدوا لدفنها نهائيا، وهو ما يقلب التوقعات التي اعتقدت أن الطريق بات ممهدا أمام القذف بصفقة القرن.
أهمية الفورة الجديدة، ليست في اكتشاف جيل شرس من الفلسطينيين على استعداد للصمود والمواجهة، لكن في احتمال أن تؤدي إلى تغيير قناعات كثير من القوى الفلسطينية، وإجبارها على إدخال تعديلات هيكلية، لأن الأسلوب الذي اتبعته القيادات الحالية أدخل القضية نفقا أشد ظلاما مما كانت عليه في العقود الماضية.
في ظل غلبة الروح الشخصية والحسابات الحركية، طغت الخلافات، ووصل الأمر إلى تدبير المؤامرات والاغتيالات، ويكاد باب المصالحة الوطنية يغلق أمام المحاولات الرامية إلى ترميم الجراح التاريخية.
صفقة القرن التي استمدت قوتها من التدهور الفلسطيني وعدم اكتراث الكثير من القوى العربية بالقضية الأم وزيادة وتيرة الصراعات في المنطقة، تواجه مأزقا كبيرا، يمكن أن يؤدي إلى طيّ الحديث عنها، لأنها قامت على أسس معيّنة وظهرت غيرها حاليا.
المعطيات الجديدة تستوجب تعاملا مختلفا يقود إلى إنهاء الكلام عن صفقة القرن، أو تعديلها بما يتواءم مع المستجدات، والتي تشي بأن إسرائيل ربما تواجه ربيعا فلسطينيا يجبرها على دخول تسوية مجهولة، ويضطرها إلى أن تتظاهر بالسلام قبل أن تصطدم بمقاومة شعبية تضعها في مأزق أكبر من المنعطفات السابقة.
الجيل الفلسطيني الحالي أكثر ذكاء ويستوعب وسائل التكنولوجيا ويعرف أهميتها، ويستطيع أن يوصل صوته وصورته للعالم ويحرك ضميره بما يصعب على إسرائيل أو غيرها أن تقابله بالقوة المفرطة، لذلك فشلت الصفقة قبل إعلانها.