ألمانيا ليست الأندلس
اعتبار الحزب المسيحي الديمقراطي أن الإسلام جزء من ألمانيا بدليل حرية العقيدة المضمنة بالدستور، فيه الكثير من السطحية ولا يمس بجوهر الهوية الثقافية لألمانيا كما يتغافل عن الالتزامات الرئيسية الأخرى تجاه المهاجرين المسلمين.
نقاش قديم جديد يطفو على السطح في ألمانيا
بلغ إبداع الشاعر الألماني فولفغانغ غوته سدرة المنتهى في كتاباته المرتبطة بالإسلام والمشرق العربي والتي توجها بكتابه “الإسلام رؤيا قديمة لعالم معاصر”، وهناك إجماع اليوم بأن الأديب الألماني ما يزال يمثل ظاهرة متفوقة على باقي المستشرقين في سبر أغوار العالم الإسلامي.
مع ذلك فإن الفهم المعمّق والاستثنائي الذي انفرد به غوته تجاه العالم الإسلامي، لم يدفع النقاد إلى أن يسألوا بداهة عمّا إذا كان الإسلام يمثل حقيقة مكونا ثقافيا لهوية الأديب الألماني الجامع بتفاصيل الحضارة الإسلامية.
ومثل ذلك السؤال أصبح بعد عقود طويلة بمثابة نقاش قديم جديد يطفو من حين لآخر على السطح في ألمانيا، ويرتبط بمدى أحقية القول بأن الإسلام جزء من هذه الدولة التي يقودها التحالف المسيحي المحافظ منذ سنوات في الحكم.
فعلى عكس ما تعوّد على سماعه الألمان والجاليات المسلمة من المسؤولين في السنوات القليلة الماضية، وفي مقدمتهم المستشارة أنجيلا ميركل، فإن وزير الداخلية الجديد هورست زيهوفر اختار لغة مخالفة للمجاملات، معتبرا أن الإسلام لا يمكن أن يكون جزءا من ألمانيا.
ملخص فكر زيهوفر هو أن المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا هم جزء من البلد لكن ذلك لا يعني في تقديره، التخلي عن تقاليد وعادات ألمانيا المميزة والمستمدة من المسيحية من منطلق مراعاة خاطئ.
كان تصريح زيهوفر كافيا لتبتلع الصحافة المحلية الطعم إلى درجة دفعت جزءا من الرأي العام إلى التساؤل في خشية، عن مصير الهوية الثقافية (المسيحية اليهودية) لألمانيا في ظل اتساع قاعدة الإسلام بدل التركيز على سياسات الترحيل المعلنة من الوزير لاحتواء أزمة الهجرة واللجوء.
ربما يتماهى هذا التصريح مع ما يذهب إليه “حزب البدل من أجل ألمانيا” المعادي للمهاجرين والإسلام، أو حركة “بيغيدا” اليمينية أو حتى النشطاء اليمينيين المنضوين تحت لواء النازية الجديدة، لكن زيهوفر لم يصدع أيضا بما يتضارب مع القناعات الرسمية لألمانيا ومواقفها في ما يرتبط بالإسلام.
وفي كل الأحوال جاء الموقف ليعيد الجدل في ألمانيا إلى المربع الأول. فقبل 8 سنوات، وعلى النقيض من وزير الداخلية، صدع الرئيس الألماني السابق كريستيان وولف بموقفه القائل إن الإسلام جزء من ألمانيا، ليشعل بذلك نقاشا دائريا لم ينته حتى اليوم.
على عكس إسبانيا لا ترتبط ألمانيا تاريخيا بعلاقات وثيقة أو متشابكة بالعالم الإسلامي، وهي الدولة التي قادت جزءا من الحملات الصليبية على الشرق المسلم في العصور الوسطى
لقد سبق أن نوهت أيضا المرأة الأقوى في العالم ميركل بالديانة الإسلامية كجزء مكون من ألمانيا، تماما مثل الرئيس وولف وقبله يواكيم جاوك وعدد آخر من الساسة المرموقين مثل وزير الداخلية الأسبق توماس دي ميزير.
لكن تلك المجاملات لا تتعدى عن كونها بداية انفتاح رسمي على عقيدة الجاليات المسلمة التي أصبحت بحكم الأمر الواقع اليوم قوة ديموغرافية (حوالي سبعة ملايين نسمة) لا يستهان بها في ألمانيا علاوة عن أن القانون الألماني يضمن لها كافة الحقوق المرتبطة بالمواطنة وحرية ممارسة الشعائر الدينية، مثل أتباع الديانات الأخرى وحتى معتنقي البوذية والساينتولوجية.
غير أنه وعلى عكس إسبانيا لا ترتبط ألمانيا تاريخيا بعلاقات وثيقة أو متشابكة بالعالم الإسلامي، وهي الدولة التي قادت جزءا من الحملات الصليبية على الشرق المسلم في العصور الوسطى، كما ظلت لاحقا تتخبط في الصراعات الدينية الداخلية إلى أن بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت (القرن 17).
لذلك لا يمكن أن تكون ألمانيا، على سعة انفتاحها اليوم، في مقام إسبانيا الأندلس بالنسبة إلى العالم الإسلامي برغم المحاولات الجليلة التي قدمها المستشرقون الألمان، وبرغم أيضا مظاهر التقارب التي برزت في القرن العشرين، سواء فيما يتعلق بالتحالف السياسي مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، أو حتى محاولات تودد ألمانيا النازية للأنظمة العربية الإسلامية في المشرق وشمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن تلك التحالفات مهدت لاحقا لفتح أبواب الهجرة المنظمة في خمسينات وستينات القرن الماضي إلى ألمانيا، انطلاقا من تركيا خاصة وعدد من دول شمال أفريقيا، في إطار برنامج عمال ضيوف الذي أطلقته حكومة ألمانيا الغربية بهدف تعويض النقص في اليد العاملة، ليتحول هذا البرنامج تدريجيا إلى عامل اندماج لتلك الجاليات المسلمة في المجتمع الألماني.
لكن اعتبار الحزب المسيحي الديمقراطي أن الإسلام جزء من ألمانيا بدليل حرية العقيدة المضمّنة بالدستور، أويل فيه الكثير من السطحية والخلط ولا يمس بجوهر الهوية الثقافية لألمانيا كما يتغافل عن الالتزامات الرئيسية الأخرى تجاه المهاجرين المسلمين ولا سيما الحق في لم الشمل العائلي.
ثم إن القول إن الإسلام جزء من ألمانيا، موقف يجب أن يتحول إلى قاعدة انطلاق لتقييم السياسة الألمانية برمتها من انضمام تركيا المسلمة إلى الاتحاد الأوروبي ذي المرجعية المسيحية. إذ على الرغم من حجم الخلافات المتراكمة بين الجانبين، فإن أنقرة لا تزال تعتبر حتى اليوم “العضوية الكاملة” في الاتحاد هدفا استراتيجيا.
وهناك وعي متبادل بأن هذا الهدف لن يكون سهل المنال على المدى الطويل، إذ لطالما لوّح محور برلين النمسا ومعه هولندا والمجر، بمخاطر زحف الثقافة الإسلامية على الدول الأوروبية في حال فتح أبواب العضوية لتركيا، فضلا عن خطر تحول التوازنات السياسية الحالية داخل مؤسسات الاتحاد بفعل الثقل السكاني لتركيا (الثانية بعد ألمانيا) وانعكاس ذلك على قرارات الاتحاد وسياسته الخارجية.