نيكولا ساركوزي: من جنة القذافي إلى جحيمه

التهم تلاحق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي من تلقي تمويل ليبي لحملته الانتخابية في 2007 إلى شبهات قتل العقيد معمر القذافي.

أشباح الماضي القاتم تطل برأسها
تسلّط قضية اتهام الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي تولى الرئاسة بين عامي 2007 و2012، بتلقي تمويل من النظام الليبي في عهد معمر القذافي (2011-1942) المجهر على خضوع الأنظمة الديمقراطية الغربية عامة، وفي فرنسا خاصة، لسلوكيات فساد سياسي ومالي يتم انتهاجها دون أي رقابة صارمة أخلاقية وقضائية على الحياة السياسية وخيارات المتنفّذين في السلطة.

وأكد مصدر قضائي فرنسي في 20 مارس الجاري إخضاع ساركوزي للتحقيق رسميا بسبب مزاعم بتلقيه ملايين الدولارات من الزعيم الليبي الراحل لتمويل حملته لخوض الانتخابات الرئاسية عام 2007. ويواجه ساركوزي اتهامات محتملة تشمل “تمويلا غير مشروع لحملة الانتخابات الرئاسية”، و”الاستفادة من عملية اختلاس أموال عامة ليبية”.

عندما كان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي يتبادل الصور مع صديقه العقيد الليبي معمر القذافي، في أوج علاقتهما في 2007، لم يخطر بباله أن هذه الصورة قد تقوده إلى السجن وتكون شاهد إثبات على توابع العلاقة المتلبسة التي جمعته بالزعيم الليبي الراحل، وأن شبح هذا الأخير سيبقى يطارده حتى تنكشف أسرار تلك الحقبة الجميلة وتتحول إلى حجيم، على حد وصف ساركوزي، الذي يخضع منذ أيام لاستجواب رسمي بشأن مزاعم حصول حملته الانتخابية في 2007 على تمويلات ضخمة من معمر القذافي.
وكان موقع “ميديا بارت” الشهير في فرنسا بتحقيقاته الاستقصائية كشف في 28 أبريل عام 2013 عن هذه القضية من خلال نشر مذكرة ليبية رسمية تتحدث عن تفاهمات جرت بين النظام الليبي بقيادة القذافي وساركوزي لتمويل حملته للانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو 2007.

وفي هذه المذكرة، التي تعود إلى تاريخ 10 دجنبر 2006 والموجهة إلى بشير صالح، المدير السابق لمكتب القذافي ومدير محفظة ليبيا أفريقيا الاستثمارية، يؤكد موسى كوسا، المدير السابق للمخابرات الليبية، أن نظام القذافي قبل تمويل حملة ساركوزي في 2007 “بخمسين مليون يورو”. لكن بعد أيام وصف كوسا الوثيقة بأنها خطأ. وقال كوسا من منفاه في الدوحة “كل هذه الروايات مزورة”.

وبعد أن لجأ إلى فرنسا إثر الإطاحة بنظام القذافي، فرّ بشير صالح مجددا بعد نشر ميديا بارت المذكرة بشأن تمويل ليبي لساركوزي وإصدار مذكرة توقيف دولية بحقه. ويعيش صالح حاليا في جوهانسبرغ، حيث أصيب بالرصاص في نهاية فبراير الماضي في حادث لم يكشف النقاب عن ظروفه.

وعندما ذهب قضاة لاستجواب هذه الشخصية الأساسية في القضية في أبريل 2017، تحصّن بحق الصمت. كما أن شكري غانم، وزير النفط السابق في ليبيا، لم يدل بأي تصريحات في الموضوع، وقد عثر عليه غريقا في نهر الدانوب في 2012. وعثر القضاة على دفاتر أشار فيها إلى ثلاث دفعات في أبريل 2007 موجهة إلى نيكولا ساركوزي بقيمة لا تقل عن 5.6 ملايين يورو.

وأثارت وثيقة ميديا بارت عام 2013 ردود فعل كبيرة في فرنسا، خصوصا وأن هذه المذكرة هي عنصر صغير من عناصر صفقة كبرى تمت بين القذافي وساركوزي، الذي كان حينها وزيرا للداخلية، واستند عليها القضاء في ما بعد لجمع شهادات داخل ليبيا نفسها حول هذه القضية.

وقد ادعى ساركوزي على ميديا بارت، متهما إياه بتقديم وثائق مزوّرة، إلا أنه بعد ثلاث سنوات ونصف من التحقيقات القضائية رد القضاء شكوى ساركوزي عام 2016، مؤكدا أن الوثيقة ليست مزوّرة وأن ما يملكه القضاء من معلومات يؤكد أن القضية صحيحة.

ورغم نقض ساركوزي لقرار القضاء فقد أعادت محكمة النقض عام 2017 رد دعوى الرئيس الفرنسي الأسبق وتأكيد أن الوثيقة صحيحة.

يعتبر إدوي بلينيل، مؤسس موقع ميديا بارت، وكان سابقا رئيسا لتحرير صحيفة لوموند، أن القضية هي أكبر فضيحة سياسية تعرفها فرنسا الحديثة تثبت بالدليل فساد قسم من الطبقة السياسية الفرنسية وتورطها في علاقات مالية مع نظام دكتاتوري.

ويضيف أنه لولا ميديا بارت لما كشف النقاب عن هذه القضية بما يسلط الضوء على الدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام داخل الدول الديمقراطية للكشف عن التجاوزات الكبرى الممكن أن ترتكبها نخب سياسية منتخبة بشكل ديمقراطي. ووصف بلينيل هذه القضية بأنها قضية القضايا كونها تعكس مدى تواطؤ الديمقراطية الفرنسية مع الدكتاتوريات في العالم.

وجمع الصحافيان في ميديا بارت فابريس أرفي وكارل لاسكي خلاصة التحقيق الذي أجري حول علاقة ساركوزي بالقذافي، في كتاب حمل اسم “مع تحيات القائد: التاريخ السري لساركوزي والقذافي”. وجاء في مقدمة الكتاب الصادر سنة 2017، أن هذه القضية ليست مثل بقية القضايا، والمسألة أبعد من المال، إنها تتعلق بالحرب.

تعود جذور القضية إلى رحلة ساركوزي، الذي كان يشغل حينها منصب وزير الداخلية عام 2006، إلى طرابلس تحت عنوان نقاش مسألة الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الذين كانوا معتقلين في ليبيا بتهمة تسميم أطفال بفيروس الإيدز. غير أن ما خرج من معلومات كشف عن أن المداولات كان الهدف منها دعم ليبيا لساركوزي بتمويل يقدر بحوالي 50 مليون يورو لتعزيز حظوظه للوصول إلى قصر الإليزيه.

ادوي بلينيل: القضية أكبر فضيحة سياسية تعرفها فرنسا الحديثة
ادوي بلينيل: القضية أكبر فضيحة سياسية تعرفها فرنسا الحديثة
وتذكر الأوساط الفرنسية أن تحولا طرأ على خيارات القذافي آنذاك لجهة التقرب من الغرب والتخلي عن برامجه لإنتاج أسلحة دمار شامل، وأن ساركوزي الذي استقبله في باريس بعد انتخابه رئيسا كان عرابا لتسهيل خيارات الزعيم الليبي الغربية.

وأقر رجل الأعمال اللبناني الفرنسي زياد تقي الدين في نونبر 2016 بأنه حمل ثلاث حقائب من ليبيا تحتوي على خمسة ملايين يورو نقدا. ويقول تقي الدين إن عبدالله السنوسي، قائد المخابرات الليبية، طلب منه نقل جزء من التمويل الليبي لساركوزي وتسليمه إلى كلود غيان، مدير مكتب ساركوزي آنذاك. وحين تساءل تقي الدين عن كيفية إدخال هذه المبالغ إلى فرنسا، أكد له السنوسي أن وزارة الداخلية الفرنسية لديها ترتيبات لتسهيل الأمر. ونقل تقي الدين ثلاث حقائب بين نوفمبر 2006 وأوائل 2007 تحتوي على ما مجموعه 5 ملايين يورو نقدا، وهو أمر أكده السنوسي في ما بعد أثناء تحقيقات معه في 20 سبتمبر 2012.

ويعترف تقي الدين بأنه في الرحلة الثانية التي حمل فيها حقيبة جديدة من المال وأثناء جلسة التسلم والتسليم مع غيان، أدخله الأخير إلى صالة خلفية حيث التقى هناك بساركوزي، الذي طلب منه أن يأتيه مباشرة إلى مكتبه في المرة المقبلة، وهو ما حصل فعلا بعد ذلك.

وينفي ساركوزي كل الاتهامات ضده ويعتبر أن القصة هي وليدة انتقام شنّه نظام القذافي منذ اللحظة التي استقبل فيها ممثلين عن المعارضة الليبية عام 2011، وأن كافة منابر النظام الليبي السابق بدأت بشكل منسق بالحديث عن تمويل ليبيا لحملة الانتخابات لساركوزي عام 2007.

ويقصد ساركوزي أن الخبر الذي نشرته وكالة الأنباء الليبية، بعيد اعتراف فرنسا بالمجلس الوطني للمعارضة باعتباره ممثلا للشعب الليبي، في 10 مارس 2011، قالت فيه إنها “علمت بسرّ خطير سيؤدي إلى الإطاحة بساركوزي وحتى محاكمته بشأن تمويل حملته الانتخابية”.

وقال خالد كعيم، نائب وزير الخارجية الليبي حينها “ما على القضاء الفرنسي إلا أن يفتح تحقيقا في مصادر تمويل الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي”. وبعد أيام من ذلك كان سيف الإسلام القذافي أكثر وضوحا حين قال في مقابلة مع قناة يورونيوز “نحن مولنا حملته ولدينا أدلة دامغة وعلى استعداد لكشف كل شيء”.

فابريس أرفي: فرنسا قدمت قيمها قربانا على مذبح المال القذر
وأضاف دون تقديم أدلة “أعيدوا لنا أموالنا، نملك كافة التفاصيل والحسابات البنكية والوثائق وعمليات التحويل. سنكشف كل شيء قريبا”.

وفي مارس 2011 وفي مقابلة مع لوفيغارو أذيع تسجيلها في 2014، تحدث معمر القذافي عن تمويل سياسي خفي لنيكولا ساركوزي. وأكد القذافي “بفضلي أنا وصل إلى الرئاسة (..) نحن من وفر له التمويلات التي مكنته من الفوز”. وقال “جاء لمقابلتي حين كان وزيرا للداخلية وطلب مني دعما ماليا”، دون أن يقدم تفاصيل عن قيمة التمويل أو طريقة الدفع.

وعشية سقوط طرابلس بيد المعارضة في أغسطس 2011، قدم عبدالله السنوسي إلى الفندق الذي يقيم فيه الصحافيون بالعاصمة الليبية وأدلى بتصريحات مماثلة، متهما ساركوزي بتمويل ليبي لحملته. ولدى سؤاله لاحقا في سبتمبر 2012، وهو في السجن بليبيا، أكد السنوسي أنه “أشرف شخصيا” على نقل 5 ملايين يورو لحملة ساركوزي في 2006-2007. وكرّر الاتهامات ذاتها في مايو 2012 رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي.

هل قتل ساركوزي القذافي
في رد على قرار القضاء الفرنسي الأخير، قرر ساركوزي الطعن على أمر حظر يمنعه من الاجتماع مع حلفائه أو مع من اتهموه أو السفر إلى بلدان مثل ليبيا لحين الانتهاء من تحقيق قضائي في اتهامات بأن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي مول حملته الانتخابية في عام 2007.

وقال محامي ساركوزي إنه سيقدم طعنا على أمر المنع. وكان المحامي يتحدث علنا لأول مرة منذ أن احتجزت الشرطة ساركوزي الأسبوع الحالي وأبلغه بأنه مشتبه به رسميا في قضية فساد.

وشن ساركوزي، الذي تولى الرئاسة بين عامي 2007 و2012، هجوما مضادا في وقت ذروة مشاهدة في التلفزيون مساء، متعهدا “بسحق” كل من اتهموه ومن بينهم حسب قوله “عصابة القذافي.. عصابة القتلة”.

لكنّ مراقبين للشأن الليبي يعتبرون أن المداولات القضائية الفرنسية الخاصة بتهم فساد ضد الرئيس الفرنسي الأسبق تعيد طرح الأسئلة حول ظروف قيادة فرنسا لجهد دولي من أجل تشريع التدخل العسكري الدولي ضد القوات التابعة للقذافي عام 2011، كما تطرح أسئلة أخرى حول الظروف الغامضة لمقتل القذافي بعد وقت قليل من اعتقاله حيّا.

ويتساءل المراقبون عما إذا كان ساركوزي الذي كان رئيسا لبلاده في تلك الفترة قد سعى للتخلص من الزعيم الليبي السابق ونظامه بغية إغلاق ملف ملتبس ومشبوه حول علاقته الشخصية بنظام ليبيا السابق وزعيمه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: