العيطة المغربية فن زهو وطرب ومقاومة
أغاني العيطة كانت وسيلة مقاومة أيام الاستعمار الأجنبي للمغرب، وكانت الشيخة خربوشة واحدة من النساء اللائي رفعن صوتهن عاليا في وجه الظلم.
جمال الزرهوني شيخ يوثق فن العيطة ويعلمه
حملت الموسيقى الشعبية في المغرب مشاعر سكان البوادي والأرياف وعبّرت عن فرحهم وحزنهم، منها فن “العيطة” الذي يعتبر تراثا موسيقيا تقليديا والأكثر انتشارا في المغرب وما يزال يؤثث منصات حفلات زهو القبيلة وطربها الشعبي.
ويعود أصل كلمة “العيطة” إلى اللهجة المغربية وهي كلمة مأخوذة من “العياط” أي النداء الذي قال فيه شيخ شعراء الزجالين المغاربة، سيدي عبدالرحمن المجذوب “عَيَّطْ يَا العِيَّاطْ ـ أُوعَيَّطْ فِي وَادْ خَالِي ـ إِذا ضَاقْ بِكْ الْحَالْ ـ قُل أَنَا في حماك يا مولاي عبدالقادر الجيلاني”.
ومعنى العيطة حسب رأي الفنان الشيخ جمال الزرهوني، شيخ العيطة العبدية الحصباوية، ومؤسس أول معهد لدراستها وتعليم أنغامها بإقليم عبدة المغربي، مناداة المجذوب لأسلافه لإغاثته.
وينقسم فن العيطة إلى عدة أقسام بحسب المناطق الجغرافية منها العيطة المرساوية والغرباوية والحوزية والملالية والحصباوية وغيرها.
واختلف المهتمون بالتراث في تاريخ نشأة هذا الفن، إلا أنهم يتفقون على أنه موغل في القدم واعتمد الآلات الإيقاعية في بداياته ثم دخلت عليه آلات وترية، ويسمّى المطربون والمطربات بالشيوخ والشيخات.
والمعنى الدارج لفن العيطة في المغرب اليوم أنه فن للترفيه والفرجة، لكن الباحث في الأغاني القديمة سيكتشف أن هذا الفن الشعبي كان مرادفا أيضا لرفض الظلم والاستعمار داعيا إلى التحرر والاستقلال.
وكانت أغاني العيطة وسيلة لردع المعتدين والتشهير بالظالمين أيام الاستعمار الأجنبي للبلاد، وكانت الشيخة خربوشة واحدة من النساء اللائي رفعن صوتهن عاليا، في زمن كان المغاربة فيه يمنعون نساءهم من الغناء، بل حتى الظهور للعموم.
وخرجت الشِيخة حادة وزوجها عليوة عن المألوف، ومارسا العصيان بفنهما ضد الحكام المتشددين الموالين للاستعمار في عهد ما يعرف بالحماية الفرنسية للمغرب من ضمنهم الحاكم عيسى بن عمر العبدي الذي كان يُثقل كاهل القبائل بالضرائب، وتقول المصادر الشعبية، إنه اعتدى على قبيلة الشيخة حادة، لكن الأخيرة، والتي تكنّى بـ”خربوشة”، ثارت ضد ظلمه، وغنت منتقدة سياسته حتى أصبحت صاحبة كعب عال في نظم كلام الموزون.
ينقسم فن العيطة إلى عدة أقسام بحسب المناطق الجغرافية منها العيطة المرساوية والغرباوية والحوزية والملالية والحصباوية وغيرها
تحكي مصادر في الرباط، أن سَمَرَ شيوخ القبائل وأعيانها في زمن خربوشة، منتصف القرن التاسع عشر، يعتبر ناقصا إن لم يصدح خلاله صوت الشيخات بالأغاني ذات الكلام الحكيم، ليس ككلمات الأغاني المنسوبة إلى شيخات مغرب اليوم والتي دفعت النقاد إلى الحكم على مجموعات الشيخات المعاصرات بالأفول بسبب الأغاني ذات الكلمات السطحية بلا عمق، عكس شيخات الماضي، حيث كان غناؤهن نظما حكيما يحمل شحنة البلاغة وصدق المعاني، يسعد ويستريح لسماعه المحتفى بهم من ضيوف القبيلة وسط الخيمة المعروفة في المغرب بخيمة القائد التي كانت تُضرب في البادية بمحاذاة الأنهار والأودية، وفي المدن قرب الأسوار والأبراج التاريخية.
يقول شيخ الوتر العبدي حميد الميّس، صاحب أغنية “يا الحَمَام الغالي” المعروفة، التي أعاد غنائها شيخ الوتر الأمازيغي الفنان محمد رويشة، أن شيوخه الذين أخذ عنهم حرفة العزف على آلة “لوتار” وهي آلة وترية مغربية قديمة، أخبروه أن للشيخة خربوشة مع فن العيطة حكاية، وأن دافعها للخروج إلى الغناء، رغم ما كانت تعانيه المرأة المغربية من تضييق على حريتها حينذاك، هو تعلقها بحبيبها وزوجها عليوة، عازف الربابة والكمان، الذي علمها فن العزف على الكمان، كان تعلقا غراميا جعله لا يطيق صبرا على فراقها لدرجة أنه من شدة حبه لها وخوفه عنها، كان يحمل مع آلتي الربابة والكمان، بندقية بعيار طلقة نارية واحدة تسمى حينذاك ببندقية “أم حبة”.
ويؤكد الميّس، الذي ذكر له شيوخ العيطة الذين عاصروه أن الشيخة خربوشة كانت مختلفة عن نساء عصرها اللائي كنّ خنوعات، وأنها كانت مَهُوبة شجاعة زادها أثر الخربشة على وجهها، الناتج عن مرض جلدي، جمالا وهبة، كما أنها كانت كرداء الشعر، أي قصير وكثيف يصعب تسريحه، وزروالة، ومعناها في اللسان المغربي الدارج، زرقاء العينين.
يقول الفنان جمال الزرهوني مبدع وحدة تكامل نغم الوتر، أن فن العيطة العبدية الحصباوية ينسبه مؤرخو الفن الشعبي إلى الشيخة خربوشة، التي كانت تصدح في غنائها بصوتها الذي يضفي على العيطة جمالية مع سحر كلماتها.
ويؤكد ما قاله الفنان حميد الميّس، أن الفنانة خربوشة دعيت إلى إحياء حفل فني في قبيلة أولاد زيد، وهم الخصوم السياسيون للقائد عيسى بن عمر العبدي، فانتقدته في أغانيها واصفة إياه بالحاكم الظالم، وقالت فيه، “بَاشْ قَتَلْتِي بَاشْ تَمُوتْ ـ يَالِي مَشْمُوتْ / دَارْ عِيسَى بَنْ عُمَر قَالُوا خْلَاتْ ـ مْقَابْلَة لَمْعَاشَاتْ”، ومعناها بالفصيح، “كما تدين تدان ـ يا مُعتدي.. دار عيسى قالوا خلت سببها المعاشات”، والمعاشات قبيلة شرفاء بمنطقة أسفين، فأمر القائد عيسى بن عمر العبدي بقتلها وتعدّدت الروايات في ذلك.
هذه الحكاية يعمل معهد الشيخ جمال الزرهوني على البحث والتحقيق التاريخي فيها وفي أسباب موتها للأمانة التاريخية. وبعد الشيخة خربوشة عُرف الكثير من الشيوخ والشيخات الذين شاركوا في مقاومة الاستعمار بأغانيهم خاصة وأنّ أغلب سكان الأرياف والبوادي كانوا لا يحسنون القراءة والكتابة فكان من الأفضل الترويج لمقاومة الاستعمار من خلال الأغاني والأشعار.