الفرانكوفونية الجديدة: زعامة تشاركية لأوروبا وأفريقيا

ماكرون يروج لفرنسية عالمية حاضرة بقوة في المؤسسات الأوروبية والأفريقية، وسط تنافس فرنسي صيني على أفريقيا.

زعامة لغوية
في خضم موجة صعود اليمين المتطرف، كانت مارين لوبن، زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا على عتبة الإليزيه، قبل أن يقصيها إيمانويل ماكرون، الشاب الذي يقف على الطرف النقيض لشعار “فرنسا أولا”. لأنه لم يكن ممكنا ترك المجال لليمين المتطرف ليحكم فرنسا ويهدد موقعها في الاتحاد الأوروبي، في وقت تبدو فيه الفرصة سانحة لشعار “فرنسا العظمى”، وصياغة استراتيجية تتناسب مع المتغيرات الإقليمية والدولية تقوم على فكرة: زعامة تشاركية لأوروبا، مع ألمانيا أساسا، وكولونيالية لأفريقيا، الساحة التقليدية لفرنسا التي بدأت تخترقها قوى جديدة، وخصوصا الصين، فإذا كانت باريس غير قادرة على مجاراة النسق الاستثماري الصيني تكون لديها قوة اللسان.

أشّرت المواجهة بين مارين لوبن وإيمانويل ماكرون، خلال السباق الانتخابي في ربيع 2017، على عهد جديد من السياسة الفرنسية، وهو ما يتجلى منذ دخول ماكرون رسميا الإليزيه العام الماضي، وهو الذي جعل من إحياء النفوذ الدولي لفرنسا إحدى أولوياته الرئيسية، وهناك ثلاثة أبواب رئيسية لهذا النفوذ، وفق رؤية ماكرون: الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا واللغة الفرنسية والحضور الفرنسي الأفريقي.

وتختلف هذه الرؤية بين بعدها الأوروبي وبعدها الأفريقي. وتتخذ القوة الأوروبية شكلا تشاركيا في حين أن القوة المستمدة من العمق الأفريقي ترتكز على أبعاد كولونيالية، وإن كانت في صور معاصرة تروّج لعلاقة توحي بأنها تقطع مع ذاكرة الاستعمار.

اللغة الفرنسية
من المقرر أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي العام القادم، وهي ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا كما أنها أكبر دولة متحدثة بالإنكليزية في الاتحاد بفارق كبير عن بقية اللغات المتحدث بها في الدول الأوروبية. وفي خضم حملة استفتاء البريكست كان من بين التحذيرات المطروحة لإقناع البريطانيين بالعدول عن التصويت لصالح الخروج، الحديث عن أن اللغة الإنكليزية، لغة العمل الرئيسية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، قد لا تظل لغة رسمية في الاتحاد بمجرد خروج بريطانيا.

الرئيس الفرنسي يطمح إلى تشجيع انتشار اللغة الفرنسية في العالم عبر بوابة أفريقيا

وقالت دانوتا هوبنر، رئيسة لجنة الشؤون الدستورية بالبرلمان الأوروبي، “الإنكليزية لغتنا الرسمية لأن المملكة المتحدة اختارتها. وإذا لم تكن معنا المملكة المتحدة فلن تكون لدينا اللغة الإنكليزية”، وفي ذات التوجه، يسير الرئيس الفرنسي بقوله إن اللغة الإنكليزية مهيمنة إلى حد كبير في بروكسل وخاصة مع قرب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وكانت الفرنسية اللغة المهيمنة على مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل والمهيمنة أيضا على مؤسسات الاتحاد الأوروبي حتى تسعينات القرن العشرين حين دخلت اللغات السويدية والفنلندية والنمساوية لتعادل الكفة بالإضافة إلى لجوء دول وسط وشرق أوروبا إلى استخدام اللغة الإنكليزية كلغة ثانية.

ولم تقبل فرنسا أبدا خسارتها اللغوية وفرضت اللغة الفرنسية كلغة مستخدمة مكافئة رغم أن عدد المتحدثين بها من مسؤولي بروكسل في تناقص. وفيما لم يبد الألمان أهمية كبرى لفكرة فرض لغة بلادهم، بالرغم من القوة الاقتصادية والثقل السياسي لبرلين، فإن ماكرون تعهد بالنضال من أجل توسيع استخدام الفرنسية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي وفي الخارج، فانتشار اللغة لا يقف عند حدود التواصل الاجتماعي، بل يمثل جزءا من السيادة والقوة.

ورغم تأكيد ماكرون على أن حديثه عن اللغة الإنكليزية ليس تحركا ضد استخدامها لكنه يستهدف الترويج لتعدد اللغات في الاتحاد الأوروبي القائم على فكرة التشاركية والتساوي، فإن حديثه عن تعزيز اللغة الفرنسية خارج أوروبا يأخذ شكلا أقرب لصورة الكولونيالية المعاصرة، وحيث تعد اللغة أحد أسلحة القوة الناعمة وأحد الدفاعات الفرنسية في مواجهة الغزو الصيني للقارة الأفريقية.

ويطمح الرئيس الفرنسي إلى تشجيع انتشار اللغة الفرنسية في العالم عبر بوابة أفريقيا، القارة التي عرفت مؤخرا تناميا محسوسا في عدد الناطقين بالفرنسية. وسيحاول ماكرون إقناع الأطراف التي تنظر إلى خطوته بعين الريبة، بأنه يسعى لفتح صفحة جديدة للفرانكوفونية بعيدة عن ذاكرة الاستعمار.

ويشير الكاتب الفرنسي جوناثان إيال إلى أن الفرنسيين يمتلكون أداة مثالية للقيام بذلك، وهي المنظمة الدولية للفرانكوفونية، وهي منظمة للدول الناطقة باللغة الفرنسية (كلغة رسمية أو لغة منتشرة). وتأسست المنظمة الدولية للفرانكوفونية في عام 1970، أي بعد أكثر من عقدين بعد تأسيس الكومنولث. وعادة ما تفضل فرنسا القيام بالمهام السياسية والأمنية مع مستعمراتها السابقة في شكل اجتماعات ثنائية، تاركة للمنظمة التعامل مع المشاريع الثقافية.

وسهّل ابتعاد نشاط المنظمة الفرانكوفونية عن السياسة، واهتمامها بحماية وتعزيز ثقافات الدول الأعضاء فيها، على فرنسا أن تُدرج العديد من الدول التي لم تكن ضمن مستعمراتها السابقة ولكن تلعب فيها اللغة الفرنسية دورا هاما. وستُعقد قمة المنظمة الفرانكوفونية لعام 2018 في وقت لاحق من هذا العام في أرمينيا، وهي دولة حكمتها روسيا لعدة قرون، ولكنها عضو بارز في المنظمة الفرانكوفونية منذ 10 سنوات.

وطبقا للمنظمة الفرانكوفونية للدول المتحدثة بالفرنسية، فإن هناك نحو 274 مليون شخص يتحدثون الفرنسية في أنحاء العالم مما يجعلها خامس أوسع اللغات انتشارا والرابعة من حيث أكثر اللغات المستخدمة على الإنترنت. ويذكّر الرئيس ماكرون باستمرار بأن فرنسا عدّلت دستورها الخاص بها لجعل الدفاع عن المكانة الدولية للغة والثقافة الفرنسية واجبا وطنيا، وأنه يجب الاستعانة بالمنظمة الفرانكوفونية لهذا الغرض. ويقول إيال إن ماكرون يرفض قبول الموقف المتشائم الذي تبناه العديد من السياسيين الفرنسيين من الأجيال السابقة، الذين بدا أنهم قبلوا بتدهور وتراجع مكانة اللغة الفرنسية عالميا.

وقال ماكرون في خطاب له يعود تاريخه إلى أكتوبر 2017 “إن إمكانات المنظمة الفرانكوفونية هائلة؛ مع وجود ما يقرب من 275 مليون شخص يتحدثون الفرنسية في جميع أنحاء العالم، تظل فرنسا قوة هائلة في المشهد اللغوي العالمي”.

ماكرون يحرص على تبديد أي فكرة بأن رؤيته التي وصفت بالمتفائلة جدا مجرد محاولة لإنقاذ اللغة والثقافة الفرنسية

وقال في خطاب ألقاه في واغادوغو نهاية نوفمبر الماضي، “ستكون الفرنسية لغة أفريقيا الأولى والعالم ربما”، وكرر ذات الفكرة، الثلاثاء الماضي (20 مارس 2018)، خلال عرضه للخطة الشاملة لتعزيز الفرنسية، والتي قال عنها البعض إنها “فرانكوفونية جديدة” بعيدا عن الماضي الاستعماري.

ويحرص ماكرون على تبديد أي فكرة بأن رؤيته التي وصفت بالمتفائلة جدا مجرد محاولة لإنقاذ اللغة والثقافة الفرنسية، بقوله إن الفرنسية تسجل النمو الأكبر راهنا مقارنة ببقية اللغات. ويتوقع أن يزيد عدد الناطقين بها بنسبة 143 بالمئة مقارنة بنسبة 62 بالمئة للإنكليزية على ما تفيد الأمم المتحدة.وبحلول العام 2065 سيكون مليار شخص يتحدث بالفرنسية أي أكثر بخمس مرات من عددهم في العام 1960 لتحتل المرتبة الثانية بين لغات العالم بعد الإنكليزية. وإلى جانب الزيادة الكبيرة في متعلمي اللغة ولا سيما في الصين حيث الطلب على اللغة الفرنسية، فإن نسبة الولادات الكثيفة في أفريقيا جنوب الصحراء هي التي تغذي الارتفاع الكبير في عدد الناطقين بها. فبين عامي 2010 و2014، ساهمت هذه المنطقة بنسبة 80 بالمئة في نمو اللغة الفرنسية على ما تفيد المنظمة العالمية للفرانكوفونية.

وأكد ماكرون في خطابه في واغادوغو على أن الفرنسية ستكون لغة أفريقيا الأولى في حال أحسنّا التصرف في العقود المقبلة”.

هيمنة الإنكليزية
حرص ماكرون على التأكيد في واغادوغو أن “اللغة الفرنسية لم تعد فرنسية فقط بل أفريقية بالمستوى نفسه لا بل أكثر”، إلا أن المثقفين الأفارقة لم يقتنعوا كثيرا، إذ يرى كثيرون أن ماكرون لم يطو بعد صفحة الماضي الاستعماري.

ولتهدئة هذه المخاوف، حرص ماكرون على تسمية خطته هذه “الخطة من أجل التعددية اللغوية في العالم”. فالفرنسية لا تريد أن تفرض ذاتها في مواجهة لغات أخرى ولا سيما اللغات المحلية مثل لغة ولوف في السنغال، كما تفعل الإنكليزية.

لكن البعض يرى في ذلك مؤشرا على أن فرنسا تخفف من شراسة نضالها ضد هيمنة اللغة الإنكليزية، خاصة وأن ماكرون توجه، خلال زيارته إلى بوركينا فاسو في نوفمبر الماضي، بنداء إلى الأفارقة الناطقين بالفرنسية حتى لا يتخلوا عن لغة “القوة الاستعمارية السابقة” ويتحولوا إلى الإنكليزية. وقال “رفض اللغة الفرنسية من أجل جعل الإنكليزية لغة شائعة في القارة الأفريقية يعني أنك لا ترى المستقبل”.

وقالت الأمينة العامة للمنظمة العالمية للفرانكوفونية ميكاييل جان الكندية المولودة في هايتي، إن التحدّي كبير خصوصا وأن الفرنسية “تتراجع” في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة.

مليار شخص يتحدث بالفرنسية بحلول العام 2065

وفي كيبك خصوصا، يعرب البعض عن حيرته أمام رئيس يقدم نفسه على أنه مدافع كبير عن اللغة الفرنسية، إلا أنه يلقي كلمات بالإنكليزية في الخارج ويطلق تسميات إنكليزية على قمم تعقد في باريس مثل “وان بلانيت ساميت” و“تشوز فرانس”. ورد ماكرون على ذلك بقوله “أنا لا أتردد أبدا في استخدام اللغة الفرنسية ولغة البلد المضيف أو الإنكليزية عندما أكون على الساحة الدولية أو أمام أوساط الأعمال لأن ذلك يعزز الفرانكوفونية”، كما رد على الانتقادات التي وصفت رؤيته لتعزيز اللغة الفرنسية بأنها عقلية استعمارية، بمشاريع أخرى هدف من ورائها إلى استيعاب النظرة الأفريقية تجاه المستعمر القديم، من ذلك حديثه عن إرجاع آثار أفريقية إلى مواطنها.

نظرة مختلفة
عهد الرئيس الفرنسي إلى خبيرين ثقافيين بمهمة دراسة إرجاع آثار أعمال فنية موجودة حاليا في فرنسا إلى بلدان أفريقية، وذلك تنفيذا لما التزم به في خطاب ألقاه نهاية العام 2017 في واغادوغو، بيّن فيه أن من أولوياته إرجاع التراث الأفريقي إلى القارة السمراء، مبينا أن ذلك يراد له أن يفتح عهدا جديدا من العلاقات الأفريقية الفرنسية.

كما سبق وقال ماكرون، في خطابه في واغادوغو إن “جرائم الاستعمار الأوروبي في أفريقيا لا جدال فيها”، داعيا الأفارقة إلى إرساء “علاقة جديدة” مع الأوروبيين، ضمن مقاربة فرنسية باتت تؤمن بأن أفريقيا لم تعد ذلك الإقليم المستعمر الذي يعتمد على فرنسا مفتوحة اليوم على مختلف الاستثمارات وثرواتها لم تعد حكرا على شركات توتال (النفط والغاز) وإلستروم (النقل) وأسواقها بدأت تستوعب شركات صينية وأميركية وتركية إلى جانب شركات بويغ (العقارات) وأورانج (الاتصالات)، وكون الصين أول شريك اقتصادي لأفريقيا أصبح عاملا مؤرقا لباريس، التي تؤمن تدخلها في أفريقيا مرة عبر حجة “الحرب على الإرهاب” ومرة عبر باب اللغة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: