هل جاء الوقت كي تدفع أوروبا ما عليها للولايات المتحدة
“البراند” الذي يقوده ترامب سيكون سائدا خلال العقد المقبل، وكل ما ستحاول أن تفعله الخارجية والدفاع والكونغرس وأجهزة الاستخبارات هو تأخير تحوله إلى تقليد سياسي.
أوروبا أصبحت عبئا
لا تشعر أوروبا بالقلق من إعلان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب شن حرب تجارية عليها، بل المسألة أكبر من ذلك بكثير. الأوروبيون يدركون أن عدم استثنائهم من الرسوم الجمركية الجديدة على صادرات الصلب والألومنيوم إلى الولايات المتحدة إيذان بأن الوقت قد حان لسداد ما عليهم تاريخيا.
مشاعر ترامب تجاه أوروبا كانت واضحة منذ البداية، التجارة والاقتصاد هما الشق الثاني، بعد الدفاع، ضمن رؤية يمكن تلخيصها في أنها “ثورة وطنية” أميركية على الالتصاق التاريخي بأوروبا.
ترامب ذاته هو تعبير عن الانقلاب على أسس استراتيجية شكلت عقيدة السياسة الخارجية الأميركية منذ إعلان فرانكلين روزفيلت دعم أميركا لبريطانيا في قتال ألمانيا النازية في أوروبا.
ليس صحيحا أن ضجيج ترامب حول “غياب العدل” في السياسات الاقتصادية والإنفاق الدفاعي بين أوروبا والولايات المتحدة هو تعبير عما يؤمن به ترامب ومساعدوه. ثمة شعور أميركي عام بأن الولايات المتحدة قدمت الكثير، وأن أوروبا تأخرت كثيرا في سداد الدين.
لم يبق هناك مجال لتفهم الرؤية الأميركية القائمة على مبدأ “حاجة الولايات المتحدة إلى أوروبا قوية، حتى تبقى هي قوية أيضا”. كل هذا يتغير الآن مع استهداف ترامب للركيزتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما العلاقات الأميركية – الأوروبية، وهما الاقتصاد والدفاع.
عقيدة التعامل من منطلق الراعي لأوروبا كانت، في نظر حلقة الناخبين المؤيدين لترامب، تصلح في ما قبل معاهدة ماسترخت عام 1992، التي أعلنت اكتمال بناء الاتحاد الأوروبي كـ”شبه دولة وطنية” كبيرة. لم يعد منطقيا لدى الكثير من الأميركيين التمسك بـ”قدر” الولايات المتحدة لتوفير مظلة الحماية وضمان أمن أوروبا دون الحصول على أي شيء في المقابل.
عدد كبير من الناخبين الأميركيين مازالوا يعتقدون أن بلادهم قدمت أرواحا كثيرة وأموالا طائلة لإنقاذ أوروبا، وأن الأوروبيين مازالوا، في اعتمادهم على أميركا، يعيشون “زمن الحرب”.
لكن انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينات القرن الماضي حسم المسألة.
في الواقع، كان وضع الكتلة الشرقية دائما محددا لطبيعة العلاقة بين ضفتي المحيط الأطلسي. ليس ممكنا تجاهل تأثير استقرار روسيا وبداية خروجها من فوضى التسعينات على تغير نظرة الأوروبيين إلى دورهم وموقعهم الجديد، ضمن الاتحاد الصاعد. أول العوامل التي تأثرت بين الجانبين بعودة التهديد الروسي هي الثقة.
لم يعد الأوروبيون يعتقدون أن الولايات المتحدة ستنجد أوروبا في حال وقوع أي غزو روسي، كما فعلت مع كل التهديدات الأخرى طوال القرن الماضي. هذه العقيدة الجديدة كانت الأساس لإعلان “سان مالو” عام 1998 بين رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك، لتأسيس قوة عسكرية أوروبية مستقلة.
لكن موقف الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، من بيل كلينتون وجورج بوش الابن وحتى باراك أوباما، كان حاسما في رفض أي “جيش أوروبي”. الولايات المتحدة ارتأت في ذلك تهديدا لأسباب وجود حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بدرجة تفوق التهديد الروسي ذاته.
معوقات العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا ظلت كامنة تحت السطح حتى حدثت ثلاثة تغيرات جوهرية، أولها ظهور قدرة روسيا على شن حرب “غير تقليدية” على شرق أوكرانيا بكفاءة عالية استطاعت من خلالها الاستحواذ على شبه جزيرة القرم عام 2014.
عجز الغرب بشكل عام عن حماية النظام الجديد الحليف في كييف أعاد الحديث عن حتمية الجيش الأوروبي، وتقليل الاعتماد عسكريا بشكل كامل على الناتو، الذي لم يعد بالنسبة لترامب، ولا الاتحاد الأوروبي، يمثل أعمدة الأمن الرئيسية في القارة.
ليس أمام أوروبا الآن سوى البدء بالاعتماد على نفسها، وتخفيف الاطمئنان إلى الولايات المتحدة في كل خططها، حتى لا يأتي اليوم الذي تجد فيه نفسها محاصرة من الشرق والغرب بقوتين عظميين لا تتوافقان مع مصالحها
التغير الثاني هو ظهور التكنولوجيا كسلعة رخيصة منتشرة في يد الجميع، ثم تحولها إلى قوة هائلة قادرة على إحداث تغيير جذري في الخرائط السياسية والاجتماعية للبلدان الغربية، والسماح لقوى معادية لأوروبا وكل ما تمثله بالتعبير عن أفكارها، ثم امتلاكها القدرة على تحديد شخصية رئيس الولايات المتحدة.
أما التغير الثالث فيتمثل في الأعداد الضخمة من اللاجئين الذين أغرقوا أوروبا في أعقاب الأزمة السورية، وشكلوا لأول مرة خطرا على تماسك الاتحاد الأوروبي، وكانوا منطلقا لصعود تيارات اليمين المتطرف مرة أخرى.
كل هذه مقدمات قادت إلى نتائج منطقية. صار سهلا اليوم مثلا أن يتجه ترامب إلى أنصاره ويتسائل “هل ترون من العدل أن ندفع 25 في المئة رسوما على صادراتنا من السيارات الأميركية إلى أوروبا، بينما تكاد أوروبا لا تدفع شيئا على صادراتها لنا من الصلب والألومنيوم؟
هل من الإنصاف أن تحمل الولايات المتحدة على عاتقها الجزء الأكبر من ميزانية الناتو، في نفس الوقت الذي ترفض فيه دول أوروبية ثرية تخصيص 2 في المئة فقط من ناتجها القومي للدفاع؟”، بالطبع ستكون الإجابة “لا” قطعية.
لأول مرة تصبح الولايات المتحدة هي الخطر الذي تتحسب منه أوروبا. في قمة ميونيخ للأمن، التي عقدت الشهر الماضي، اشتبك الحلفاء وكاد الأمر يتطور ويصل إلى أزمة.
اشتكى الأوروبيون لنظرائهم الأميركيين من أن وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس بالكاد ذكرا الاتحاد الأوروبي في خطابيهما أمام القمة. كل ما كان الوزيران يركزان عليه هو مشروع “رؤية ماكرون” للاتحاد الأوروبي، الذي، إن تحقق، فسيشكل فشلا مدويا للاستراتيجية الأميركية، وسيمحو عقودا من جهود الولايات المتحدة لابقاء الاتحاد الأوروبي اتحادا فقط.
نجاح الاستراتيجية الأميركية في الإبقاء على أوروبا في طور الاتحاد كان متوقفا على دور بريطانيا، التي شكلت جبهة متقدمة أشبه بـ”حصان طروادة”، وعصا في عجلة تقدم أوروبا نحو مرحلة الدولة الواحدة.
لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما يعرف بـ”بريكست”، عجل باتجاه دفع الأوروبيين والأميركيين لطرح السؤال الحرج: متى سنجلس على الطاولة لحسم ملفاتنا المؤجلة؟
هذا الوضع الجديد يخرج المؤسسات الأميركية التقليدية من موقع رأس الحربة في الدفاع عن ثوابت العلاقة مع أوروبا، وينقلها إلى موقع المقاومة. هذا الكلام يعني، بشكل مبسط، أن الـ”البراند” الذي يقوده ترامب سيكون سائدا خلال العقد المقبل، وأن كل ما ستحاول أن تفعله الخارجية والدفاع والكونغرس وأجهزة الاستخبارات هو تأخير تحوله إلى تقليد سياسي ملزم لكل الإدارات الأميركية اللاحقة.
ليس أمام أوروبا الآن سوى البدء بالاعتماد على نفسها، وتخفيف الاطمئنان إلى الولايات المتحدة في كل خططها، حتى لا يأتي اليوم الذي تجد فيه نفسها محاصرة من الشرق والغرب بقوتين عظميين لا تتوافقان مع مصالحها.
نعم، العلاقة بين واشنطن وبروكسل منقوصة وليست أفضل ما يمكن الوصول إليه، لكنها على الأقل أفضل ما هو متاح الآن، ولا بديل أمام الجانبين سوى التشبث بها.