نحت الحجر فن معماري يزين الدور والساحات العامة في المغرب
النحت على الحجر فن معماري عرفته المملكة المغربية من خلال تلاقح الحضارات تشهد عليه تحف فنية تؤثث دور المدن العتيقة والفيلات العصرية وساحات المدن العامة.
تحف صقلتها يد فنان مجهول
عرف المعمار المغربي منذ القدم تداخلا عجيبا بين الفن والتشكيل، جمع بين الشرقي والغربي، وخاصة الفرنسي والإسباني الأندلسي مع فن العمارة الإسلامية، فكان خليطا ثريّا دعمته طريقة بنائه المرتكزة على المواد الأولية المختلفة التي تُظهر ذلك التداخل الجمالي على اللمسات الأخيرة للبنايات بديكورها الذي يتم إنجازه بمتمّمات حرفية فنية كنقوش الجص والزَّليج الفاسي والتطواني، ونقوش الحجر ومنحوتاته.
وقد عرفت المملكة المغربية النحت على الحجر الذي نراه يؤثث المكان بالساحات العامة حول نافورة تلفظ ماءها المتراقص، فتزيد المكان رونقا وجمالا وسط الروض التاريخية في مراكش وفاس، ودور المدن العتيقة والفيلات العصرية، فترى الزائر للمغرب مشدود النظر إليها يصوّر ما نُحت من حجر كلسي على شكل أسود وصقور وغيرها، تضفي على البنايات مسحة فنية دوّنها التاريخ والمُغرمون بفن التصوير الفوتوغرافي.
وسط ساحة فسيحة صففت منحوتات نسور وصقور وأشبال وأسود، وكثير من منحوتات القطع الحجرية التي تجسّد مجموعة من الحيوانية البرية والمائية رابضة عند مدخل ورش مختصّة على جانب الطريق نحو مدينة طنجة، يعرضها فنانوها للبيع وإتحاف نظر الزائرين العابرين للمناطق المغربية في البريش، سلا، القنيطرة، مديونة، آسفي والصويرة..، وغيرها من مداخل المدن السياحية في البلد الأفريقي المطلّ على أوروبا.
لا يجد “المعلم” عبدالسلام الغرباوي، فرصة يستريح فيها من العمل لكثرة طلب الزبائن لمنحوتاته ونقوشه على الحجر الكلسي، فعمله يمتد لساعات طوال يعتمد خلالها على أزميله الحديدي ومطرقته، يرسم ويسطر وينقش، حتى يخلص في النهاية إلى تشكيل تمثال فني واضح الملامح لينتهي إلى تحفة فنية يملأ بها المكان الذي يصفه بـ”بستان الفن تتوزع فيه تحف حية ولو أنها من حجر”.
يمزج النحات عبدالسلام، وهو رجل على مشارف الستينات من عمره، ينحدر من إحدى القرى المتاخمة لمدينة القنيطرة، وهو عصامي لم يدرس فن النحت الذي يسميه “الحرفة”، لا في المدارس ولا في المعاهد، بل تعلّمه على يد “لَمْعَلْمِين” في مدينة سلا المتاخمة للرباط العاصمة، فوحده يحمل الحجر من مصادر بيعه في البراري، ويحضره إلى ورشته لنحته بفنية ودقة، فمن ذلك الحجر نوع يخلط له فناننا طلاء من الصباغة أو الجير الحجري المحروق لاستخراج اللون الأبيض الميّال إلى الرمادي الخفيف، وهو لون يضفي على المنحوتة رونقا وجمالية تسر الناظرين، أما الحجر الكِلْسي المُتَرَمِّل، المعروف في المغرب بـ”المنجور”، فيرفض أي طلاء وتحتفظ منحوتاته على جماليتها الطبيعية المستمدّة منه.
المعلم صفة يُنَادى الحرفيين الذين مازالوا في بداية مشوارهم مُعلمهم الصانع الحاذق الذي يعلمهم أسرار تشكيل الحجر وتحويلهم بالصبر والخيال تحفا رائعة، في تصريح له أكد عبدالرحيم القصير، وهو واحد من المتعلمين الشباب الذين يتبعون خطى ونصائح معلمهم في فن النقش والنحاتة على الحجر الكلسي، “أنه استفاد من تجربة السي عبدالسلام”، مشيدا بمعلّمه الذي علمه، “حرفة تجعلني أفتخر بتحف أنجزها تفرح الزبائن حين يزيّنون بها منازلهم، سأفتخر بها في نفسي حين أمر وأراها في حديقة، هذا ما يجعلني أحب هذا العمل، إضافة إلى أنه يوفر لي لقمة عيش كريمة تضمن الاستقرار”.
يحكي لنا الشاب ذو التسعة عشر عاما اليوم، أن والدته سلمته إلى المعلم الغرباوي وعمره آنذاك عشر سنوات، وقالت له وهو يصاحبها إلى ورشة المعلم قولتها التي لن ينساها أبدا، “يفنى مال الجدين وتبقى صنعة اليدين”، وفعلا، الصنعة التي لا تغني صاحبها تستره بمعنى تضمن له مورد رزق يحفظ ماء الوجه، كما يقول عبدالرحمن الذي يشدّ على الصنعة بالنواجذ، ويطمح إلى أن يذهب في صناعتها سبر غورها حتى يصبح معروفا في البلاد. ويصف عبدالحق
الهوس، أستاذ الرسم والفنون التشكيلية بمدينة آسفي، جنوب غرب الدار البيضاء، أعمال “لَمْعَلم” عبدالسلام بأنها عمل فني، ففن النحت عرفه التاريخ في الحضارات القديمة بابليون وإغريق ورومان..، حيث كان الفن في تلك العصور البعيدة، يتميّز بحرفية فنانين يصنعون تحفا وتماثيل يؤثثون بها قصور حكامهم وساستهم، ويزيّنون بها الساحات العامة، اعترافا منهم بعظمة القادة والساسة، والمفكّرين والشعراء والفلاسفة.
لقد تطوّر فن النحت في أوروبا والبلاد العربية، في مصر والعراق وسوريا، في باريس وروما وبريطانيا، وغيرها من بلدان التقدّم الفني، حيث أبدع روّاد فن النحت والتشكيل. فالنحت كما يقول الأستاذ الهوس “ظاهرة إنسانية” وهو عطاء “سحري” لأناس متميزين، مؤكدا أن المنحوتات التي تزيّن الساحات العمومية والدور السكنية، هي قطع فنية تزيّن المكان وتضفي عليه جمالية، علينا أن نحافظ عليها ونعيد ترميم من تأثّر منها بفعل الزمن.