جمهورك شخص واحد
أمبرتو إيكو يرى أن النص يبني قارئه الخاص من خلال استراتيجية نصية، ويصبح النص غير مقروء إذا كان النص يحيل على قراء لا يفترضهم ولا يساهم في إنتاجهم.
متعة الكتابة
الكتابة متعة. الكتابة لذة. الكتابة معاناة. إفراغ شحنات سالبة وموجبة. الكتابة أمل ..جمال.. خلق..إبداع. وصف. توصيل. تعبير. خيال. إنتاج.. تتعدد الصفات وتدور المعاني على نفسها لتصل إلى جمال ما نسميه بـالكتابة بأجناسها المختلفة ومسمياتها الكثيرة تحت تصنيفات نقدية وتاريخية مفهومة، غير أن الكتابة لذاتها ستبدو أنها تفتقد بعض حلقاتها المثيرة، وهي الآخر. بمعنى الطرف الثاني الذي يتلقى الكتابة ويتفاعل معها وقد يُنتجها.
هذا الذي أسماه البعض بـالجمهور الواحد! نظريات التلقي الأدبية الكثيرة أعطت اهتماماتها الكبيرة للقارئ والتلقي ووصفته بأوصاف كثيرة قد تكون مناسبة في تحديد وعيه أو تمنحه سلطة كبيرة في محاكمة النص بوصفه منتجا ثانيا له بعد موت المؤلف، فالمؤلف (شخصية مفتعلة) كما وصفه بورخس لأنه إنتاج المجتمع؛ باعتبار أن القارئ هو المؤلف الآخر الضامن لديمومة النص كما لو أنه المؤلف العارف بخفايا النص وأسراره، وفي هذا إشكاليات نقدية متقاطعة وسجالات معروفة، لكن في الحالات كلها يبقى الجمهور بشكله العام هو أحد المعايير “التسويقية” للكاتب والكتاب، وأيضا في هذا يحتدم الجدل بين الكبار والصغار على أن التسويق ليس هو المعيارية الأخيرة لنجاح الكاتب، ومع كل هذا الجدل والتعاقب في الآراء حول التقاء الكاتب بجمهوره وقرّائه يبرز السؤال التاريخي الذي يتجدد في مناسبات كثيرة: لمن يكتب المؤلف؟
شتاينبك يقول بوضوح: جمهورك شخص واحد فقط!
ويعززه ماركيز بالقول: أعتقد أنك تكتب من أجل شخص ما!
فمَن قصده شتاينبك حينما (جمع) الجمهور بشخص (واحد) وما الذي يحمله تأويل ماركيز من أن الكتابة تكون لشخص ما من دون أن يحدد سماته وملامحه؟
نلاحظ أن مثل هذه الأوصاف “الشبحية” في الغالب تمخضت من تجارب في الكتابة ليست عابرة، وأن النقد الأدبي لا يتجاوزها بل يؤسس عليها نظرياته، بل ربما يبني عليها فرضيات نقدية غاية في الأهمية، فشتاينبك وماركيز من بيئتين قرائيتين مختلفتين وزمانهما يفترق عن بعضه ولغتهما ليست واحدة وأسلوبهما السردي لا يتشابه، غير أنهما يتفقان ضمنا بأن هذا (الواحد) هو الجمهور الخالص الذي نكتب له، وأن هذا الفرد– الجمع هو حصيلة الكتابة مهما عظُمت من دون تحديد مستويات هذا القاري الضامن لديمومة النص، وبهذا يمكن أن نرى أن المبدع-الخالق للنص سبق الناقد-التنظيري الذي يجتهد دائما في أن يضع النص في سجون نظرياته الكثيرة، ثم يطوّرها لاحقا بمقتضيات نتائج الإبداع الأدبي- السردي والشعري، وتستمر العملية الأدائية هذه الى تجارب متعددة، يتطور فيها النقد كلما تطورت أساليب الكتابات الإبداعية، وبالتالي (يتعدد) هذا (الواحد) الآخَر-الجمهور وتتعدد معه آليات القراءة بمقتضيات متون التجارب الكثيرة التي يرفدنا بها الأدباء والكتّاب والمبدعون بشكل عام.
أمبرتو إيكو يرى أن النص يبني قارئه الخاص من خلال استراتيجية نصية، ويصبح النص غير مقروء إذا كان النص يحيل على قراء لا يفترضهم ولا يساهم في إنتاجهم، وبهذا يعطي إيكو الأهمية الاستثنائية لهذا (الواحد) الذي افترضه شتاينبك وماركيز عبر استراتيجية نصية ملامحها وتفرعاتها كثيرة وكبيرة وموافِقة لحداثة النصوص وما بعدها، أي أن كل جيل أدبي سينتج قرّاءه المساهمين في عملية الإنتاج الإبداعي، إشارة إلى تطور القراءة حتى بشيوع حداثات التقانة الإلكترونية التي أضعفت إلى حد ما القراءة الورقية، لكن القارئ بوصفه منتجا لن يغفل عنه المؤلف، حتى لو كان قارئا إلكترونيا، مما يعني وصول الكتاب إلى مرحلة متقدمة للقارئ الشامل، ليتحدد “الجمهور” من خلال القارئ الذي أشار إليه شتاينبك ومن ثم ماركيز وعززهما إيكو وآخرون يتقنون فن المحاكاة النقدية والقراءة الجدية والفرز النوعي لأنواع القراءة ومدياتها المتشعبة في الشريان الإنساني العام