مدينة تراب: مثال فرنسي للصعود العنيف للأصولية و التطرف الإسلامي
الإعلام الفرنسي لم يعر اهتماما لظاهرة التأسلم بل حاول طمس المشكلة لاعتبارات أهمها الخوف من الترويج لليمين المتطرف.
يقدم الإعلاميون الفرنسيون كتاب زميلتيهم من جريدة لوموند، رافاييل باكي وأريان شومان “مدينة تراب، الجماعة المنعزلة” على أنه فتح جديد في مجال التحقيق الصحافي في حين أنه لا يعدو أن يكون سوى كتاب مثل كل كتب الصحافيين التي تصدر في موضوع صعود الأصولية في الضواحي الفرنسية المأهولة بالسكان المنحدرين من شمال أفريقيا وأفريقيا السمراء، والتي هي كتب كثيرا ما تهمل البعد السوسيولوجي وتكتفي بسرد ما هو ظاهر للعيان، والذي بات معروفا للعام والخاص منذ مدة طويلة وخاصة بعد صدور كتاب “الأقاليم الضائعة للجمهورية الفرنسية” سنة 2004.
القارئ العارف لما يجري على أرض مدينة تراب سرعان ما يكتشف أن الصحافيتين لم تتعمقا في تحقيقهما واقتصر الأمر على نقل نظرة السكان الانعزالية وبعض الفاعلين المواربين. وهو ما لم يكوّن في نهاية المطاف سوى مجرد تحقيق رخو مجامل مطعّم ببعض نكت سمجة لممثل كوميدي من أصل مغاربي، ومن مدينة تراب، بالإضافة إلى حكايات عن نجاح لاعب كرة وممثل من أصل إسلامي أفريقي أيضا. وفي الحقيقة لم يعد خافيا على أحد أن المدينة عرفت تطورا عمرانيا وأنها محطة من محطات تجارة الهيروين الكبرى ومختلف أنواع المخدرات وعلى الخصوص مدينة الجهاديين. ولم تبحث المحققتان بعمق لماذا يغادر السكان من غير أصل أفريقي أو عربي المدينة أو لماذا يغادر يهود تراب إلى إسرائيل ومن المسؤول عن حرق معبدهم؟ ولم تقدما للقارئ الأسباب التي جعلت مدينة صغيرة مثل تراب ترسل 70 جهاديا إلى سوريا وهو رقم قياسي أوروبي؟
ومع ذلك تقول الصحافيتان إن تراب هي مدينة تستهوي الخيال بجنون. ولا ندري كيف وجدنا ذلك في أكثر المدن الفرنسية إصابة بداء الأسلمة والانعزال؟ أليست تراب هي المثال الحي عن ذلك المسار الحتمي لتلك الأسلمة الزاحفة التي قد تمس كل المدن الفرنسية ذات الأغلبية المسلمة إذا لم تتحرك القوى العلمانية بشكل صارم وتوقف ذلك الخروج العلني عن قيم الجمهورية ومبادئ العيش المشترك؟
حينما يصل المرء إلى تراب يشعر بأنه خارج الجمهورية الفرنسية وخاصة إذ كان ذا ملامح مغاربية، إذ لا ينافقه السكان ويصرحون أمامه بكل ما يختلج بدواخلهم من رفض للقانون الوضعي وتحد للعلمانية.
ويكفي أن تجلس وتحتسي قهوة وتنصت إلى ما يقوله المتأسلمون هناك لتعرف أن الأمر أصبح خارج نطاق السيطرة ويكفي أن تتجول وتلاحظ تصرفات الناس وهندامهم لتتأكد أن الأسلمة واقع ماثل أمامك وليس اختلاقا من قبل العنصريين المعادين للمسلمين. وهو الأمر الذي لا يمكن أن تدركه صحافيتان ينظر إليهما كعورتين أولا وكأجنبيتين وعدوتين ثانيا. كيف تفسر الصحافيتان اضطرار مصور وكالة “كابا” الشهيرة إلى توظيف دليل وحارس أمن شخصي ليتجول في المدينة ويصور بأمان كأنه في بلدان تعيش حروبا؟
ولئن لم يخلُ الكتاب من معلومات متداولة، فإنه لم يقدم ما ينبغي فهمه بل اكتفى بالملاحظة من بعيد وبعض التفسير المحتشم الخالي من البعد السوسيولوجي الذي وحده يتجاوز سرد حياة الأفراد ويلج إلى عمق ما يحرك الجماعة. ولكن لماذا احتفت الساحة الإعلامية الفرنسية بهذا الكتاب إذن؟
الضواحي الفرنسية باتت معاقل للإسلام المتطرف ومرتعا للشبكات التكفيرية التي تجنّد الشباب من أصول مغاربية وأفريقية إلى بؤر الإرهاب، ويحدث كل ذلك وسط تعام واضح من طرف بعض الأوساط الإعلامية التي تذر الرماد في العيون عن طريق تلميع بعض النماذج الناجحة، وكذلك بعض التيارات اليسارية المتمادية في خلط الأوراق، مما يثير الشك والريبة
كان واضحا ومنذ سنوات أن الإعلام الفرنسي لم يعر اهتماما كبيرا لظاهرة التأسلم في فرنسا بل حاول طمس المشكلة والتخفيف من خطرها لاعتبارات كثيرة أهمها الخوف من الترويج لليمين المتطرف الذي استثمر الظاهرة في نشر المعاداة للأجانب والدعوة إلى توقيف الهجرة نحو فرنسا.
وهكذا تجنب الإعلام الفرنسي في أغلبه وعن قصد التعامل مع الموجة الإسلامية التي تضرب بلاده منذ عشريتين. وهو ما لم يستطع فعله بعد الاعتداءات الإرهابية في باريس ونيس وغيرهما وعدد الجهاديين الفرنسيين المتكاثرين في العراق وسوريا. وكل هذا عرّى هذا الإعلام وكشف عوراته وكان لا بد أن يحاول تبييض صورته وربما يدخل هذا الكتاب والاحتفاء به في إطار خلق استراتيجية جديدة لا تتستّر على الواقع الذي بات مكشوفا وإنما لمحاولة تطبيعه وتنسيبه، بمعنى فصل الإرهاب عن الحالة الإسلامية التي غدت رقما أساسيا في تسيير شؤون تلك المدن/الأحياء بل تفرض أيديولوجيتها في الفضاء العام.
فهل تدرك الباريسيتان على سبيل المثال معنى فرض الصوم على كل من هو من أصل عربي في شهر رمضان؟ هل تدركان معنى فرض الحجاب على فتيات صغيرات، ومنع النساء من دخول المقاهي أو التدخين في الشارع أو الاستمتاع بمرطبات زمن الحر على شرفة مطعم؟ وحتى وإن ذكرت المحققتان المساجد والمصليات المتكاثرة وأسلمة التجارة والهندام وطريقة الكلام الخاصة وغير ذلك، فإنهما أغفلتا أهم شيء: وجود دولة داخل دولة على رأسها الإسلام السياسي. لم يعد خافيا على أحد أن بعض المسؤولين من اليسار كثيرا ما يأخذون الأوامر من المسجد لدواع انتخابية.
وتقول رافاييل باكي، إحدى الصحافيتين، إن مدينة تراب لا تحكي مختلف أنواع الفشل في فرنسا وإنما تحكي تناقضات البلد. وكأن الصحافية لم تلحظ ولم يصلها خبر ذلك الصعود العنيف للأصولية إلى درجة باتت المدينة كأسوأ مدينة في المغرب العربي من حيث عدم المساواة بين الجنسين في الفضاء العام وإجبارية الامتثال للطقوس تحت ضغط الجماعات الإسلامية.
لقد فضح عثمان نصرو، رئيس مجموعة الجمهوريين المستقلة المعارضة في مجلس تراب البلدي الصحافيتين حينما أرسل لهما رسالة مفتوحة جاء فيها “لقد صدمني كتابكما الذي بدل أن يكون تحقيقا كنت آمل أن أجد فيه تحليلا دون أدنى تنازل للتحديات التي تواجهها مدينة مثل تراب ولم يكن في الحقيقة سوى رواية: سرد خادع لتطور مدينة، اخترتما له الشخصيات التي تلعب فيه دور البطولة”.
ولا يمكن أن يكون كل شبان تراب من لاعبي كرة قدم المحترفين أو ممثلين أو من مغنيي الراب. ولا يفيدهم في شيء الاحتفاء ببعض الشبان من المدينة الذين كان لهم مسار خارق للعادة كالكوميدي جمال دبوز، والممثل عمار سي ولاعب الكرة آنلكا.. إلخ. ويضيف عثمان نصرو متّهما الصحافيتين “لقد التقيت بكما في شهر فبراير2017 بطلبكما لنتحدث عن مدينة تراب ومع الأسف وجدت محرفا ما أدليت به لكما من معلومات كما طمستما أهمها وهي تلك المتعلقة بالفساد الذي ينخر مدينتنا فلماذا؟ لقد أخبرتكما من بين أمور كثيرة عن ذلك الغموض الذي يلف تمويل بعض أماكن العبادة الإسلامية هنا ولكنكما فضلتما الصمت”.
ويختم الكاتب رسالته طارحا سؤالا مهمّا على الصحافيتين وعبرهما على كل زملائهما “أحترم عمل الصحافيين حينما يكون مهنيا. ما نفع هذا الكتاب إذا لم يكن صارما وصادما؟ هل هو مجرد مقاربة سطحية للواقع لإرضاء الجميع؟”. وإن كان الكتاب ممتعا للقراءة، فإنه يبقى بعيدا عن التحقيق الصحافي إذ بقي يحوم حول حقيقة تراب متجاهلا أنها مخبر يمكن أن ندرس من خلاله ظاهرة الأسلمة في فرنسا. تراب هي معقل الجهاد ورمز لاستعمال أصوات المسلمين في ترسيخ الأصولية. تكفي إطلالة على ما يباع من كتب تضليلية وأشياء أخرى في مكتبة “نور الهداية” في المدينة لنعرف أن الحالة الإسلامية قد هزمت الجمهورية في تراب بسبب صمت المنظومة الإعلامية وتواطئها في أحيان كثيرة.