بن كيران: الأسلوب الخاص في خلط الأوراق
الهزل الظاهري في خطاب بن كيران تلويح بتهديد جدي تتم بلورته ضد الحكومة ويتحين مع صحبه اللحظة المناسبة للإطاحة بالتجربة، ليس على مستوى الحكومة فحسب، وإنما أيضا وربما أساسا تجربة الأمانة العامة للحزب تحت قيادة سعدالدين العثماني.
الرجل أسلوب، هكذا يقال. ولأن الأسلوب ليس واحدا فإن الرجال متعددون. يصدق هذا القول على رجل السياسة أكثر من غيره. لم يقصد بن كيران قط أن يكون هزليا في أدواره، وإن اختار لها أسلوبا يوحي بذلك. فالعبرة بالهدف وهو جدي بالتأكيد أما اللغة فهي أداة ووسيلة لا غير. وبما أن لغة التواصل محكومة بمنطق التبليغ فإنها لهذا السبب بالذات تتلون بتعدد المواقع والمواقف والشخصيات التي تتوسلها.
السياسي التقليدي يتقمص شخصية الجدي وهو بهذا قد يستميل المتلقي الذي يشاطره ظاهريا جديته حتى وهو لم يدرك بالدقة المطلوبة دواعيه وأهدافه لأنه يكتفي بما يوحي إليه به المخاطب من الجدية غير أنه معرض للكثير من المطبات في تقمص الجدية في حدودها القصوى، لأنه بذلك يدل خصومه السياسيين من حيث لا يدري على مواطن ضعفه ومصادر عثراته السياسية إن هم أحسنوا المتابعة والتحري سواء على مستوى التحقق من اقتران الأقوال بالأفعال أو من حيث طبيعة التصرف خارج خشبة الخطاب الرسمي وطقوسه المعروفة.
إذ يكفي المناوئ السياسي وضع اليد على ما ينفي أو يوحي بنفي الجدية الظاهرة لتنهار الصورة في عدد كبير من الأوساط بما فيها تلك التي يعتقد السياسي الجاد أنها من رصيده الاستراتيجي غير القابل للتحول والتفكك.
أما السياسي الذي يترك الانطباع بكونه غير جدي فإنه يقي نفسه بشكل مسبق من مخاطر لا تحدق عادة إلا بمن يتبنى خطاب الجدية والدقة والحزم. فعندما يستطيع الخطيب غير الجدي ظاهريا إثارة ضحكات وقهقهات الجمهور فقد أصاب الهدف لأن هذا يعني أن هذه الشخصية وأسلوبها قد حققا الهدف من الخطاب وهو إثارة الاهتمام بل ربما نسيان كل الخطاب الجدي الذي يمكن أن يكون قد سمعه على هذا المنبر أو ذاك.
وللمرء هنا استعادة بعض نقاشات مجلس النواب أو مجلس المستشارين حيث كان بن كيران أحد أطرافها من موقع المسؤولية الحكومية عندما كان رئيسا للحكومة أو من موقع النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية ليقف بنفسه على هذا الواقع.
ويبدو أن الأمر طبيعي إلى حد بعيد، ذلك أن الجدية تقتضي تعقيدات فكرية نظرية وسياسية تجعل الخطاب مستعصي الفهم على العموم، كما يمكن النظر إليه باعتباره وليد نوع من التكلف والصنعة كما أنه سريع العطب في مواجهة الخصوم بينما يصيب الأسلوب الساخر أو عدم الجدي، ظاهريا، الهدف مباشرة، كما لو كان عفويا وصادقا ولا يعرض نفسه لمخاطر الانهيار دفعة واحدة لأنه لم يتم إرساله ليكون موضع محاكمة عقلية أو منطقية وإنما بهدف التأثير اعتمادا على العواطف أو الأبعاد النفسانية وأهواء المتلقي.
استعراض اللحظات الأكثر سخرية أو انعدام الجدية في خطاب بن كيران يؤدي إلى استنتاج أن الرجل أكثر جدية في هزله، أو ما يبدو أنه هزل أكثر من جدية، جاد في خطابه العقلاني بعيد المغزى والمستغلق على من لا يستطيع فك شفرة الفكر السياسي العقلاني الحديث.
أراد بن كيران السخرية من سلفه في الأمانة العامة للحزب وعلى رأس الحكومة ومن تحالفه ومن الحكم بشكل عام وكان له ذلك بهذا القدر أو ذاك.
وقد التقطت الأحزاب السياسية، وإن بتفاوت، مضمون الرسالة فاتخذت منه سلوكا بحسب تقديرها لخطورته، فقاطع الاجتماعات الحكومية من قاطع، غير أن الجميع اتخذ موقفا مشتركا عبر عنه لرئيس الحكومة المطالب باتخاذ موقف يعيد اللحمة إلى تحالفه الحكومي لأن الهزل الظاهري في خطاب بن كيران تلويح بتهديد جدي تتم بلورته ضد الحكومة ويتحين مع صحبه اللحظة المناسبة للإطاحة بالتجربة، ليس على مستوى الحكومة فحسب وإنما أيضا وربما أساسا تجربة الأمانة العامة للحزب تحت قيادة سعدالدين العثماني.
وليس بالأمر المهم طبيعة المدخل إلى هذه الغاية المزدوجة سواء كان الإطاحة بالعثماني من أمانة الحزب، وهو ما دل عليه تمنيه له بإكمال ولايته لأن التمني هنا يضمر عكس الرغبة تماما، أو كان تفجير التحالف الحكومي وهو الهدف من الهجوم الذي شمل أحزابا أساسية هي التي كانت هدف سهامه النقدية إبان فترة البلوكاج وهو ينتظر أن تتخذ قرارات في هذا الاتجاه.
وبهذا المعنى فإن بن كيران لم يعمل قط على تحريف الأنظار عن أهم القضايا بالنسبة إليه، بل توجه إليها في صلبها. إذ تتمحور في نظره حول موقعه من المعادلات السياسية في البلاد التي تختزل موقع العدالة والتنمية كما تختزل الموقف من الشعب المغربي على اعتبار تأويله الضيق لنتائج انتخابات السابع من أكتوبر عام 2016، حيث تختزل المقاعد التي حصل عليها حزبه العملية الديمقراطية أي لكأن المقاعد التي حصلت عليها الأحزاب السياسية الأخرى مجرد أرقام لا وزن لها في ميزان الديمقراطية وأن عملية تشكيل التحالف الحكومي لم تكن سليمة وكذلك انتخاب رئيس البرلمان.
ومن الملاحظ أن السؤال الاستنكاري الذي تم الترويج له منذ ما سمي انتهاء البلوكاج هو: هل يستطيع العثماني النجاح في مهمتين أساسيتين: مهمة قيادة العدالة والتنمية أولا ومهمة العمل الحكومي ثانيا؟ والتأمل في خطاب بن كيران أمام شبيبة العدالة والتنمية يؤكد أن المهمتين حاضرتان بقوة في ذهنه إذ صوب نيرانه إلى المهتمين معا. فهل هناك جدية أكثر من جدية هذا الخطاب الذي ينظر إليه باعتباره خطاب الهزل أو غيره من النعوت؟
وهذا ما يفسر على مستوى آخر التلويح بالمخاطر المحدقة بحزب العدالة والتنمية وفِي صلبها مخاطر الوجود ذاته. فقد أوحى بأن سلوك العثماني السياسي على رأس الحكومة والحزب يشكل خطرا محدقا بالحزب، وإلا ما معنى التوجه إليه بالكلام الصريح التالي “إذا قال لك الملك إن علينا حل الحزب فتعال لنحله”. مع الاستدراك والتأكيد “الملك وليس غير الملك” أما غيره فلا.
ولا يمكن الزعم أن بن كيران لا يدرك تمام الإدراك أن الملك ليس هو من يتدخل في وجود أو عدم وجود الأحزاب، لأنه دستوريا على مسافة واحدة من الجميع وهو حريص على ضمان تنفيذ مقتضيات الدستور من حيث احترام النظام الحزبي التعددي، لكن الزج باسمه في هذه الحالة محاولة للتهويل من جهة وإعادة خلط الأوراق السياسية من أخرى، لعل وعسى!