المحترف والهاوي
كثير من الصحفيين الاحترافيين قد سقطوا في فخ النمطية والنضوب ومغادرة جمهرة القراء لهم، بعد أن قال ما عنده ونضبت تجاربه ومغامراته الحياتية.
في الألعاب الرياضية تتضح الهوية التصنيفية بشكل جلي للرياضي المحترف عن الرياضي الهاوي، فالاحتراف في الحقل الرياضي، عملية سياسية ذات ابعاد بعيدة الستراتيج والتكتيك، للجهة المتبنية للشخصية الاحترافية ومنها اقتصادية مجردة، للحفاظ على مكانة النادي ونجوميته، لذلك يدفع للاعب المحترف وناديه السابق ما يحدد مكنته ونجوميته في مجال الاحتراف.
يدخل جانب الاحتراف في الفن السينمائي أيضا بشكل واضح، مثلما نشهد الأجور المرتفعة للممثلين النجوم، إذ تصل بعض الأسعار في بورصة النجوم إلى ما يقارب ميزانيات بعض الدول الفقيرة. فالاحتراف يتحول إلى مهنة لصاحبها في الفن والرياضة، لكن المشكلة تقع في الآداب وكتّابه. حيث تتداخل المهنة الاحترافية بالهواية المجردة.
في الأدب وخاصة في الحقل الروائي تتداخل المساحات بين الهواية المجردة للكاتب الهاوي الذي يلبي متطلباته السايكولوجية في فن الكتابة، وبين الكاتب الآخر الذي احترف الكتابة حتى غدت آليتها واحدة من الأساسيات التي يعتمدها في حياته كمنهج.
إن دور النشر بوصفها محطة فرز للهواية والاحتراف في فنون الطباعة والنشر والتوزيع، تعمل بخبث وسلطة استبداد قاتلة للهواية والاحتراف معا، في التعامل لجعل الكتاب الهاوين والمحترفين في المساحة المنظورة ذاتها، من دون التمييز بينهما، لأن بعض هذه الدور ما زالت لم تبلغ سن الرشد في المهنة، فكيف تميز بين كاتب هاوٍ وآخر محترف؟
من جهة أخرى كم من كاتب روائي في الوطن العربي يميز بين مساحة احترافه عن مساحة زميله الهاوي؟ كم من كاتب يعمل بعقد طويل أو قصير الأمد بعقود يكسب منها ما يتيح له البحبوحة الاقتصادية وتوفير ما يحتاجه؟ ربما نستطيع أن نستثني القليل وعلى عدد أصابع اليد من الكتاب العرب الذي يعمل في مجال الاحتراف ذي الصيغ العالمية المضبوطة. فالأسباب متعددة في تداخل المنطقتين، لكن أهمها هو عدم وضوح القصد والمعايير الفنية والأخلاقية بين قوانين الاحتراف المعمول بها عالميا، ومبادئ الهواة التي تعمل فيها المؤسسات الحاضنة لهم.
إن الفرق النظري بين الاحتراف والهواية لا يقف عند نقطة واحدة يمكن السيطرة عليها، فالأول يمكن أن نصفه بالمهني الذي يعمل ضمن نطاق العارف بحيثيات مهنته بخبرة ودراية وتجارب جعلته يختزل الوقت في الكتابة واقتصاديات اللغة، بصرف النظر عن احترامه لها، أو تداخل ما هو أخلاقي فيها من عدمه. المهنة التي يجيد فنونها بسلاسة بالقليل من الوقت بحرفية الماهر والبارع في عملية الإنتاج.
الكاتب المحترف هو الذي يكتب بطريقة التمكن من ناصية الاشتراطات الفنية والأدوات الوظيفية في فن الرواية. لكن ثمة نقطة جوهرية يجب الالتفات إليها، هي في ميل بعض الكتاب المبدعين والعباقرة للغرف من بحر الهواية، مبتغيا طعم حرارة ودفق الهواية في حرفية الكتابة، حيث يبرز الشغف الطفولي والعين المندهشة في رؤية الأشياء لأول مرة، ذلك التداخل الحميد بين الإبداع والنمطية.
أما الكاتب الهاوي، فهو الذي يعمل بشغف للظفر بالوصول إلى إرضاء ذاته أولا، ثم تلبية الحاجات السايكولوجية التي تعصف به، محاولا إخراجها من خلال اللعبة الكتابية، ومن الطبيعي أن يضع الهاوي نصب عينيه أفضل أنواع التعبير الصادق في الدفق السردي في المساحة الكتابية النثرية بصيغة المشاعر الساخنة والانفعالية. ومن الخطأ الفاضح أن نعد الكتابة الاحترافية هي الأكثر نضجا على الدوام، بل ربما يقفز الهاوي إلى مرتبة نجوم الرواية في واحدة من كتبه، حيث من المرتجى أن تحقق له المكانة والشهرة بين مكانة الاحترافيين.
إذن فالقضية في هذا المجال تكون نسبية، ولا تعني مطلقا أن تدوينات الكاتب الهاوي هي رواية يتيمة أو لعبة الصبيان أو محاولة في التجريب واللهو، بل تكشف لنا النتاجات المطروحة في المكتبات عمليا أن الكثير من روايات الهواة صنعت مجدا مهما لكتابها، والعكس أيضا صحيح، فالكثير من الكتاب الاحترافيين قد سقطوا في فخ النمطية والنضوب ومغادرة جمهرة القراء لهم، بعد أن قال ما عنده ونضبت تجاربه ومغامراته الحياتية، حتى سقط في فخ التكرار وتدوير مساحة أفكاره بصيغ مختلفة بلعبة مكشوفة