المغرب: بعض من أسئلة احتجاجات جرادة
هناك تقاطع بين موقف أعلى سلطة في البلاد، وبين مجمل القوى الاجتماعية والسياسية التي قاربت النموذج التنموي المغربي بأشكال متفاوتة، حيث يمكن اعتبار مسلسل الاحتجاجات مؤشرا قويا على محدودية ذلك النموذج.
ليس هذا تقريرا عن احتجاجات مدينة جرادة في المغرب الشرقي، لأنها أشبعت تقارير عبر مختلف وسائل الإعلام، وليست محاكمة اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية لها أو لطبيعة المطالب التي تتحرك تحت سقفها. فقد سبق لغيري أن تحدث عن الموقف منها سلبا وإيجابا. كما ليست هذه محاكمة للحكومة المغربية وطبيعة تفاعلها مع تلك الاحتجاجات التي لم تجد بعد في معطيات الواقع وتفاعلات الفئات والقوى المعنية ما يدفع منظميها إلى وضع حد لها، وهذا رغم انطلاق الحوار بين الحكومة وبين ممثلي المحتجين. فكم من محاكمة أجريت لهذه الحكومة والحكومات السابقة حيث تم تحميلها مسؤولية أوضاع منطقة جرادة، إلى جانب أوضاع مناطق أخرى من المغرب. بل إن البعض قد تحدث صراحة عن موقف إرادي ضمني أو معلن لتلك الحكومات، تجاه عدد من المناطق التي اعتبرت مهمشة على أكثر من صعيد. ولو أن تلك المقاربات لم تول الأهمية الضرورية لتقديم الحجج الدامغة على وجود خطط مبيتة لدى الحكومات لتهميش أو تفقير هذه المنطقة أو تلك، وبالتالي، فليس مجديا النظر إلى الاحتجاجات من زاوية نظر ترمي إلى تكريس التهمة أو نفيها تبرئة للحكومات من مآلات الوضع في مختلف مناطق البلاد، ذلك أن الغاية تتمحور هنا حول بلورة بعض الأسئلة في ضوء هذه الأحداث والاحتجاجات.
فهناك أولا، سؤال للأطراف المعنية أو التي ينتظر منها تقديم الإجابة، وهو سؤال موجه إلى الحكومة المغربية التي ينتظر منها المحتجون تلبية عدد من المطالب التي يعتبرونها ملحة. وهم لا يَرَوْن أن شرعيتها يمكن أن تخضع لأي نقاش شكلا مضمونا، انطلاقا من قراءتهم للدستور وللحقوق التي يتضمنها في مجالات الشغل والإدماج في الدورة الإنتاجية، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية والمجالية، لأن استمرار التفاوت بين المناطق في مجالات التنمية يحمل في طياته مخاطر كثيرة على مجمل أوضاع البلاد وخاصة مستقبل الاستقرار فيها.
وهناك ثانيا، السؤال الموجه إلى الهيئات المنتخبة، محليا وجهويا، وإلى السلطات الإدارية، على المستويين معا. وهو سؤال مزدوج في شقه الأول، بطبيعة الحال، لأنه يخص هيئات الوساطة وفِي مقدمتها الأحزاب السياسية ذات التمثيلية الوازنة في تلك الهيئات، ومختلف منظماتها الموازية وأولها النقابات التي كان عليها ألا تهمل الأبعاد الاجتماعية في معاناة السكان. ولعل شعارات بعض المتظاهرين الحادة تجاه هذه الهيئات دالة على أن جزءا من السكان قد يئس من إمكانية تدارك الموقف من قبل تلك الهيئات، وأنها على عتبة تحميلها المسؤولية الكبرى عن الأوضاع الحالية في المنطقة.
ولعل السؤال المركزي، ثالثا، حتى وإن لم تتم بلورته بشكل واضح ودقيق، موجه إلى النموذج التنموي المعتمد في البلاد.
وفِي هذا السياق يمكن التذكير بالموقف الذي عبر عنه العاهل المغربي الملك محمد السادس حيث أقر في خطاب رسمي له بمحدودية هذا النموذج، وألح على ضرورة إعادة النظر فيه بما يجعله يأخذ بعين الاعتبار أهم تطورات الواقع المغربي على مختلف المستويات ليكون في مستوى التحديات.
وعلى هذا المستوى هناك تقاطع واضح بين موقف أعلى سلطة في البلاد، وبين مجمل القوى الاجتماعية والسياسية التي قاربت النموذج التنموي المغربي وإنْ بأشكال متفاوتة خلال السنوات الأخيرة، حيث يمكن اعتبار مسلسل الاحتجاجات في مختلف مناطق البلاد مؤشرا قويا على إدراك محدودية ذلك النموذج، كما يمكن النظر إليه باعتباره دعوة إلى تدارك الموقف قبل فوات الأوان، ولعل في هذا التقاطع ما يشي بأن المغرب مقبل فعلا على تحول نوعي في رؤيته إلى التنمية والبناء الاجتماعي والسياسي يمكن أن يتجاوز سلبيات الواقع وتراكماته.
وهناك رابعا وأخيرا، السؤال المحوري حول الكيفية التي يمكن بها تجاوز هذا الواقع بما يسهم في بلورة نموذج تنموي بديل يأخذ بعين الاعتبار مستجدات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المغربي الراهن في أفق يستوعب متطلبات البناء المستقبلي. ويبدو أن هذا السؤال موجه إلى مختلف المؤسسات التمثيلية والسياسية المدعوّة إلى وضع إستراتيجية ديناميكية تقوم على أساسين ضروريين أولهما، معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية المستعجلة دون الوقوع في متاهة الركض وراءها ضمن منطق تجريبي وارتجالي، وإنما التعاطي معها ضمن تصور إستراتيجي على المدى المتوسط والبعيد، بحيث تعبر المعالجات الجزئية الضرورية عن الأبعاد الأساسية لإستراتيجية تنموية واضحة المعالم على مستوى الغايات، كما على مستوى الوسائل المادية والمعنوية.
وَمِمَّا لا شك فيه أن جهوية متقدمة تعمق اللامركزية الإدارية والمجالية وتوفر شروط التوازن في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتضامن بين جهات المملكة في صلب كل نموذج تنموي ناجع.
فهل ستتضافر جهود مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع المغربي، في عملية بلورة هذا النموذج؟ أم أن لحظة الوعي الجماعي المتولد عن ضغط الأحداث وما تؤشر عليه من اختلالات ستتراجع بمجرد أن ترى هذه الفئة أو تلك أن البعض من مطالبها قد وجد طريقه إلى التحقق على أرض الواقع؟
إنها لحظة مفصلية في تاريخ المغرب حيث يتشكل وعي شامل لدى مختلف مؤسسات المجتمع والدولة بضرورة القيام بإصلاحات جذرية تستدرك نواقص النموذج التنموي المعتمد إلى حد الآن. ولا شك أن الإمساك بها، بوعي وإصرار، هو صمام الأمان الذي لا ينبغي التفريط فيه انتصارا لمستقبل البلاد