الصحراء المغربية: أي حظوظ للمفاوضات في ظل استمرار التهديدات
عندما يعلو ضجيج منظمة سياسية أكثر من اللازم، فذلك دليل قاطع على كونها تعيش أزمة حادة تعجز عن مواجهة تحدياتها بفعالية، فتتوسل الضجيج الإعلامي للتغطية على واقعها الفعلي.
يتحرك مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في كل الاتجاهات الأفريقية والأوروبية عند الأطراف المعنية، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، بالنزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية وعينه على التوصل إلى صيغة مقبولة لدى الجميع لاستئناف المفاوضات حول هذا الملف، إن لم يكن للتوصل إلى حل نهائي ناجز في أقرب الأوقات فعلى الأقل من أجل القطع مع الجمود الذي عرفته المفاوضات والتخفيف من التوتر الذي لا تكاد حدته تتراجع لفترة حتى يعود إلى الواجهة من خلال تهديدات جبهة البوليساريو الانفصالية التي لا تكاد تتوقف حتى يتم استئنافها لسبب أو دون سبب وفق ما تقتضيه الأجندة السياسية والإستراتيجية الجزائرية على مستوى الداخل الجزائري ذاته، أو على المستوى الإقليمي.
وبطبيعة الحال، فإن دور البوليساريو هنا هو على الدوام العمل على استفزاز المغرب، كما حصل في منطقة الكركرات في السابق وخلال الأيام القليلة الماضية، وكما عبرت عنه المناورات العسكرية التي قامت بها ميليشيات البوليساريو تحت إشراف القيادة العسكرية الجزائرية.
وهي مناورات رأى فيها جل المراقبين لتطورات الوضع في المنطقة محاولة أخرى لاعتماد أسلوب التهديد للضغط على الأمم المتحدة وعلى المبعـوث الأممي لاتخاذ خطوات ما ضد المغرب الذي تتهمه الجزائر وجبهة البوليساريو بأنه لا يرغب في التوصل إلى حل سياسي على عكس ما هو عليه الأمر تماما، وفي سبيل البحث عن مخارج لأزمة جبهة الانفصال ومن يدعمها في الإقليم.
والحقيقة أن “حليمة عادت إلى عادتها القديمة” وهذا هو واقع قيادة جبهة البوليساريو الانفصالية، كما تشي بذلك تهديداتها المتكررة للمغرب، لكن هل تنفع العادات المتجاوزة في محاولة خلق واقع جديد لميليشيات لا تملك من قرارها غير الخضوع لتعليمات قصر المرادية بالجزائر أو من يتحدثون باسمه دون زيادة أو نقصان؟
الجواب بالطبع هو النفي، ذلك أن تجربة المغرب مع القيادة الجزائرية مكنت الرباط من توقع سلوك تلك القيادة المباشر تارة وغير المباشر تارة أخرى، وإن اتخذ لبوسا انفصاليا على مستوى الإعلان كما هو عليه حال هذه التهديدات بالعودة إلى حمل السلاح واستئناف العمليات الإرهابية على التراب الوطني المغربي.
التجربة السياسية في التعامل مع الكيانات المصطنعة علمت وتعلم من لديه أدنى إدراك سياسي قبل الإرادة السياسية ذاتها، أنه عندما يعلو ضجيج منظمة سياسية أكثر من الـلازم، فذلك دليل قاطع على كونها تعيش أزمة حادة تعجز عن مواجهة تحدياتها بفعالية، فتتوسل الضجيج الإعلامي للتغطية على واقعها الفعلي.
اقتران تهديدات البوليساريو مع هذا التهجم الجزائري على المغرب لا يدع مجالا للشك في أن مساعي المبعوث الخاص ستجد أمامها أكثر من عقبة يصعب تذليلها قبل التوصل إلى حل مشروط بمراجعة الجزائر لموقفها المعادي للمغرب
وهذه حال جبهة البوليساريو الانفصالية بشكل مضاعف وهي تستقبل العام الجديد وتقوم بجردة لانتكاساتها السياسية وهزائمها الإستراتيجية خلال العام الماضي بالخصوص. ذلك أن تراكماتها في هـذا المجال لا تترك لها أي فرصة في الشك أن واقعها الفعلي ووزنها في معادلات أفريقيا الإقليمية والـدولية مرشحان للتدهور، خاصة بإنجاز المغرب لمكتسبات سياسية إستراتيجية في علاقاته الأفريقية في مختلف المجالات، وبعد تحقيق هدف استعادة موقعه الإستراتيجي داخـل مؤسسة أفريقيا الرسمية (الاتحاد الأفريقي) العام الماضي، باعتباره عنوانا لفشل إستراتيجيات العزل والتهميش الممارسة ضد المغرب خلال العقود الخمسة الماضية بذريعة النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية، كما أنه عنوان بداية الأفول النوعي لسياسات الهيمنة والتحكم التي مارستها القيادة الجزائرية في مصائر أفريقيا على قاعدة الذريعة نفسها وزعم الحرص على تحرر الشعوب وحقها في ممارسة حقها في تقرير المصير.
إدراك قيادة البوليساريو، ومن يحركها من الدول الإقليمية وعلى رأسها النظام الجزائري، لهذا المنحى الذي اتخذته وقائع الدبلوماسية المغربية وتراكماتها على المستوى الأفريقي دفعها إلى تجريب اعتماد سياسة التصعيد السياسي والعسكري ولغة التهديد بخرق اتفاق وقف إطلاق النار كما تمت معاينة ذلك خلال الفترة التي سبقت وأعقبت استعادة المغرب لموقعه داخل الاتحاد الأفريقي، لعلها بذلك تحقق بعض الأهداف الإعلامية التكتيكية التي تسوق للعالم تصوراتها التي يهددها التطور الفعلي لمعطيات ملف هذا النزاع المفتعل بالتلاشي النهائي بعد الضمور الحقيقي الذي طالها لصالح تصورات بناء علاقات أفريقية متوازنة تعتمد الشراكة على أساس مبدأ “رابح-رابح” الذي اعتمده المغرب في مختلف علاقاته الثنائية والجماعية على الصعيد الأفريقي.
صحيح أن هذا الضجيج الإعلامي دفع الأمم المتحدة ومبعوث الأمين العام إلى الصحراء إلى التحرك تحسبا لأي طارئ غير محسوب النتائج، لكنه كان مناسبة أخرى بالنسبة للمغرب لإعادة تأكيد موقفه المبدئي من القضية ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته التاريخية في ردع النزق السياسي للانفصاليين ومن وراءهم من القوى الإقليمية على اعتبار أن المغرب “لا يغمز جانبه كما يغمز التين”، وأن البديل الوحيد للدبلوماسية هو حسم الأمور في الميدان، ما لم تَرْعَو قيادة الانفصال وما لم تفهم القيادة الجزائرية أن كل محاولة لتصدير أزمتها المتفاقمة على المستويات الاقتصادية والسياسية من قمة هرم السلطة إلى قاعدته الرخوة، لن تجني منه غير غرق إضافي في أزمة أو أزمات إضافية أخطر مما يمكن تصوره من قبل من توجه سياساتهم الأحقاد ومناوئة الشعب المغربي ومصالحه الوطنية.
ويبدو أن المبعوث الأممي هورست كوهلر استطاع أن يكوّن صورته الخاصة حول النزاع المفتعل حول قضية الصحراء المغربية، وأنه بصدد بحث الخطوات الأخيرة في عملية بلورة تصوره من خلال اللقاءات الثنائية التي دشنها مع وفد جبهة الانفصال في برلين بداية الأسبوع، غير أن كل اللقاءات الثنائية لا تعني أن عقدة المفاوضات بين المغرب والجبهة الانفصالية قد تم فكها. ذلك أن السؤال الـذي لم يجد بعد جوابا له من قبل المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحـدة إلى الصحراء هو: ما الموقف النهائي من خطة الحكم الذاتي باعتبارها الخطة الوحيدة المطروحة على الطاولة بعد سحب الأمم المتحدة لخطة تنظيم استفتاء تقرير المصير لفائدة البحث عن حل سياسي تقبل به مختلف أطراف النزاع؟ وإلى أي حد لمس المبعوث الخاص تحولا ما في موقف القيادة الجزائرية يوحي باستعدادها للمسـاهمة بجدية في مسـاعي البحث عن حل، خاصة وأن أطـرافا كثيرة من هذه القيادة قد نزلت بثقلها في هجوم سياسي ودعائي على المغرب على كل المستويات، آخرها اتهامات رئيس الدبلوماسية الجزائرية ورئيس الوزراء التي تجاوزت كل محددات العمل الدبلوماسي وضرورات حسن الجوار.
إن اقتران تهديدات البوليساريو مع هذا التهجم الجزائري على المغرب لا يدع مجالا للشك في أن مساعي المبعوث الخاص ستجد أمامها أكثر من عقبة يصعب تذليلها قبل التوصل إلى حل مشروط بمراجعة الجزائر لموقفها المعادي للمغرب.