ربح ترامب وخسر العرب في معركة القدس
لم يعبأ ترامب بالضجيج السياسي الذي أثير حول قراره، لأنه دخل امتحانا في الإرادة والقدرة على اتخاذ قرارات مصيرية، شكك فيها البعض، وأراد أن يطمئن الحلفاء ويؤكد للخصوم أن المحكات الرئيسية تظل هي الاختبار الحقيقي.
زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس لكل من مصر والأردن وإسرائيل هذا الأسبوع، تعني أن الولايات المتحدة تأكدت أنها لم تخسر معركة القدس، فبعد تأجيل مرتين وإسقاط رام الله من الحسابات، عاد الرجل للقيام بجولته، ما يشي أن الأجواء مهيئة لاستقباله، وأسباب الإرجاء السابق تلاشت أو تراجعت.
عندما أقدم الرئيس دونالد ترامب على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، لم تكن لديه شكوك كبيرة في تمرير القرار، ويعلم أن عاصفة من الصياح ربما تندلع فور الإعلان عن القرار، لكنه كان على يقين أنها سوف تهدأ تدريجيا.
الصلف الذي ظهر على السلوك الأميركي في مجلس الأمن الدولي ثم في منظمة الأمم المتحدة، كان غرضه ردع الدول التي تنتقد القرار وتداعياته، والإيحاء أن واشنطن لا تزال تملك يدا طولى في العالم، وهو ما أخفقت فيه لأن نتيجة الاختبارات التي أجريت للقرار على المستوى الدولي جاءت مخيبة للإدارة الأميركية، مع ذلك استمرت في العناد.
لم تهتم واشنطن بالمعاني السياسية التي حاولت دول كثيرة، عربية وغير عربية، توصيلها للإدارة الأميركية، لكنها كانت معنية بعدم التراجع عن قرار تم تأجيله لنحو 22 عاما، للتأكيد على أن الرئيس ترامب مختلف عمن سبقوه عندما أحجموا عن ترجمته عمليا.
ربح ترامب الجولة ولم يعبأ بالضجيج السياسي الذي أثير حول قراره، لأنه دخل امتحانا في الإرادة والقدرة على اتخاذ قرارات مصيرية، شكك فيها البعض، وأراد أن يطمئن الحلفاء ويؤكد للخصوم أن المحكات الرئيسية تظل هي معمل الاختبار الحقيقي.
العصي التي حاولت دول عربية وضعها بين عجلات ترامب لم تفلح في تعطيل مسيرتها، والمطبّات التي سعت منظمة المؤتمر الإسلامي لنثرها على جانبي الطريق أخفقت في حث ترامب على التراجع، والغمز الذي جاء من الشرق والغرب لم يقدّم رؤية بديلة تناهض موقف الإدارة الأميركية الحالية.
مع ذلك اضطرت واشنطن للانحناء قليلا لتمرّ العاصفة وتعود إلى جدول أعمالها وخطتها بشأن ما وراء القدس، وأجلت جولة مايك بنس للمنطقة لنحو شهر، حتى لا تتحوّل الزيارة إلى حملة للعلاقات العامة وأخذ وردّ لتفسير الموقف الأميركي دون الترويج لمضمونه النهائي.
إتمام الجولة حاليا، يعني أن واشنطن تيقنت من كون رد الفعل العربي الظاهر حول قرار القدس فقد مفعوله، خاصة أن نتائجه لم تترك أثرا لافتا في مجال التحركات الفلسطينية أو غيرها.
على المستوى الفلسطيني، اتخذ الرئيس محمود عباس من القرار وسيلة لجذب التعاطف إليه شخصيا أكثر من دعم القضية المركـزية، وعقـد اجتماعات وقام بزيارات لدول عدة لم تسفر عن تقدّم كبير، وأدت إلى إعـلان الولايات المتحدة نيتها قطع المساعدات المادية التي تقدم للسلطة الفلسطينية.
الدول العربية والإسلامية التي بدت مواقفها ساخنة في الأزمة، حاول كل منها توظيفها بالطريقة التي يجني من ورائها مكاسب معنوية مؤقتة، دون اهتمام كبير بحدوث اختراق واضح للقرار الأميركي.
الحصيلة التي يمكن الخروج بها من جملة المواقف أن واشنطن سوف تظل طرفا أصيلا في القضية الفلسطينية، وإسرائيل لن تقبل بطرف آخر كبديل عنها، وإذا أراد الرئيس محمود عباس والدول العربية المعنية تحريك عملية السلام، عليهم التفاهم أولا مع الإدارة الأميركية، لأن الخيارات البديلة محدودة.
حماس وتركيا وقطر وغيرها، سعت إلى توظيف قرار ترامب للهروب من بعض المواقف الإقليمية التي حشرتها في زاوية ضيقة، في وقت تستمر إسرائيل في توسيع نطاق المستوطنات، وتجاهد بعض الدول العربية لعدم الوصول إلى نقطة الإقرار تماما بالأمر الواقع.
هذه النوعية من التقديرات لم تغب عن ذهن واشنطن، وعندما أطلقت تهديداتها للدول التي تنتقد موقف ترامب كانت لديها قناعة أن القرار سوف يمر، حتى لو لم يتم تنفيذه حاليا، وصدوره يندرج في باب جسّ النبض، ومروره يعني إمكانية تمرير ما هو أشد قسوة منه، ويتعلق بصفقة القرن وخارطة التسوية السياسية، إذا انطلق قطارها.
جولة مايك بنس للمنطقة، يمكن فهمها على أنها استكمال لما بعد جسّ النبض لقرار القدس، وقياس مدى استعداد الدول الثلاث (مصر والأردن وإسرائيل) المنخرطة في القضية الفلسطينية، للشراكة في المرحلة التالية.
مرحلة إطلاق الحديث مباشرة عن صفقة القرن، التي سبقتها مؤشرات كثيرة، تخص أُمنية ترامب في نقلة نوعية كبيرة في هذا الفضاء، والتوصل لمساومة تاريخية تقر لإسرائيل المكتسبات التي حققتها في لحظة ضعف عربي نادرة، قد تجبر الفلسطينيين على قبول صفقة ناقصة، وإذا جرى الرفض فعليهم تحمل تبعات التعثر اللاحق، ويحق لكل من واشنطن وتل أبيب التصرف بمزيد من الغرور والغطرسة السياسية.
المتوقّع أن يخرج مايك بنس من جولته بنتيجة مخيبة، فلن يستطيع سماع ما يريد سماعه بخصوص تحريك عملية التسوية وفقا للقاعدة التي أرستها إدارة ترامب، إلا إذا قدّم تفسيرا لقرار القدس يوحي أنه يحتمل القسمة على اثنين، بمعنى لا يتحدث عن القدس كاملة، ومن الممكن إطلاق نقاش حول إمكانية أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية وفقا لقرارات دولية وعربية كثيرة.
ساعتها يمكن أن تتغيّر الكثير من الأمور، وتقف كل من مصر والأردن مع قرار ترامب، وتتبدّل وجوه كثيرة، وهو ما ترفضه إسرائيل، فهي تريد كل شيء ولن تقبل الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لأن ميزان القوى ينجرف لصالحها، وتعي أنّ لديها مقوّمات مختلفة تمنحها تفوّقا كاسحا.
كما أنها تدرك أن الانقسام الفلسطيني أحد أهم الوسائل التي تعتمد عليها في تبرير إحجامها عن الدخول في عملية التسوية، وتعمل على ترسيخه بكل السبل، وتعتقد أن بعض القوى الفلسطينية تجد نجاتها في استمراره، لأن الوحدة الوطنية سوف تضطرها للتنازل عن مكاسب حققتها بفعل الانقسام فقط.
جولة بنس، تحمل في طياتها رسالة تقول إن الولايات المتحدة لن تبارح المنطقة، ولن يتم السماح لقوى أخرى مناهضة تحلّ محلّها، قد تكون واشنطن تعثرت خلال السنوات الماضية، لكنها لن تتنازل لأحد عن منطقة من أهم مواقع النفوذ الحيوية في العالم. وهي رسالة سعت الإدارة الأميركية إلى توصيلها بأساليب عدة من قبل، لكنها لم تُسمع لأنها جاءت همسا ولمزا ومصحوبة بتشويش وارتباك جعلاها تبدو غير جادّة.