المغرب.. لا حلول واقعية دون محاسبة وحرية
لا تحديث ولا دمقرطة للإدارة، من دون وضع اليد على مكامن الفساد فيها ومحاربته وتحجيم وجوده وتأثيره، وهذا لا يتأتى دون إعادة الاعتبار للصحافة الحرة المسؤولة.
يتسلّح الكثير بمشرط النقد اللاذع لما تعرفه قطاعات التعليم والصحة وكافة الإدارات من سلبيات وتجاوزات بالجملة، حيث تم نشر غسيل البرلمانيين الذين يدافعون عن تعدد التعويضات السمينة، وانتقدت المستشفيات والمصحات التي لم تعد قادرة على التعامل مع المريض من دون الاطمئنان عمّا بداخل محفظته أولا.
الكل يشتكي من جشع الأطباء الذي لا يطاق ولا إنسانيتهم التي طغت على جدارة قلة منهم وتعاملهم الإنساني، ولا جدية المنتخبين والبرلمانيين والسياسيين في التعاطي مع قضايا المجتمع الحقيقية وهمّهم هو التعويضات التي يتقاضونها.
لا خدمة عامة من دون تربية، ولا تربية دون معرفة علم يحترم الإنسان وآدميته.
الخلل يكمن بالضرورة في المنظومة التربوية وما تعرفه من هزات متتالية، وآخرها خبر اتجاه الحكومة المغربية نحو إلغـاء مجـانية التعليم، وكـأن هذا التعليم كان في أحسن أحواله أو سيتعافى بمجرد أن يدفع المواطن البسيط رسوم دراسة أبنائه.
لا مجال للصدفة هنا. العرض والطلب، هو القانون المتحكم في السوق. والتعليم بالمغرب يجب أن يخضع لمنطق آخر بعيدا عن المزاجية في التخطيط وتشييء الثقافة والعلم والمعرفة وامتهان مهمة المعلم والأستاذ.
الفارق فعلا كبير بين ما تعيشه قطاعات عديدة في هذا البلد، ومنها الصحة والتعليم والإدارة والصحافة، وبين أفق التوقعات الذي انتظرناه والذي انخفض للصفر مع الحكومات المتتالية ومنها حكومة الإسلاميين التي أجهزت على الكثير من المكتسبات رغم علاّتها.
أتحدث هنا عن تعميق حرية الانتقاد المسؤول والواقعي والموضوعي، فالاستغلال والجشع واللامسؤولية هي أعداء الحرية وقامعيها. كما أن الحرية الكاشفة للعلل والمطبّات هي الحل الأمثل لوضع الكل أمام مسؤوليته.
هناك الكثير من السلبيات والاختلالات الخطيرة التي تقع في العديد من القطاعات، وعلى رأسها الصحة والتعليم اللذان يحتاجان إلى اهتمام اكبر وتخطيط جدّي للارتقاء بهما وأنسنتهما.
وهناك من ذهب به اليأس من بعض المؤسسات والمسؤولين إلى تمني عودة الاستعمار الذي شد السكك الحديدية وعبّد الطرق وبنى المستشفيات والمدارس العصرية. رغم علمهم بأن هذه الدعوة تمثل خيانة لمن ضحوا بشبابهم وأسرهم وأموالهم وحياتهم من أجل أن ينعم هذا الوطن بالاستقلال.
نجح المغرب فعلا في فتح العديد من الأوراش الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية المهمة، لكن السؤال هل هناك محاسبة لكل من سولت له نفسه نهب الأموال المرصودة لتحسين وضعية الفئات الضعيفة والرفع من مستواها؟
أن يفشل المسؤولون بعد الاستقلال في تدبير الشؤون المحلية والمركزية في البلد، وأن يرتقي دواليب المسؤولية من ليس أهلا لها، وأن يرتع بعض عديمي الضمير نهبا في ميزانيات القطاعات التي يتولونها، وأن يتسبب البعض في فشل العديد من البرامج التنموية، فهذا كله لا يبرر أبدا تمجيد من قتل أعمامنا وأخوالنا ومن اغتصب وروّع النساء والأطفال ونهب وامتص دماءنا.
سنغافورة صنعت مجدها بالاستثمار بحرية في عقول أبنائها، وأصبحت رائدة في العديد من المجالات رغم أنها لا تمتلك سوى ثروتها البشرية.
والصين انتقلت من بلد يئن تحت ضربات الفقر والاستعمار والتخلف والمجاعات التي قضت على الملايين، إلى قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية يحسب لها مليون حساب، بعد أن عمل مسـؤولوها على مواجهة مشاكلها بواقعية وانتصارا لمبدأ البراغماتية والنجاعة والإصلاح بالتأني والاقتصاص ممن حاول عرقلة مسيرتها ونموذجها.
لقد نجح المغرب فعلا في فتح العديد من الأوراش الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية المهمة، لكن السؤال المطروح بإلحاح هو هل تمت محاسبة كل من سوّلت له نفسه نهب الأموال التي تم رصدها لتحسين وضعية الفئات الضعيفة، والرفع من مستواها؟ وهل تم فتح تحقيقات جدية في أسباب فشل العديد من المشروعات التنموية، أو تلك التي لم تر النور بعد وضع حجر الأساس.
عندما نتحدث عن المحاسبة والمسؤولية فلا بد من التأكيد هنا على أن العديد من الملفات الحساسة تم كشفها على صفحات الجرائد وإن بشكل محتشم أحيانا، نظرا إلى عدّة أعطاب لازالت تمس الجسم الصحافي ككل.
فما معنى أن يتابع أربعة صحافيين من جرائد مغربية، أمام المحكمة الابتدائية بالرباط، بعـد أن اتهمتهم النيابة العامة بنشر معلـومات تتعلق بلجنة تقصي الحقائق حول صناديق التقاعد، إثر شكاية تقدم بها رئيس مجلس المستشارين، حكيم بنشماس، على الرغم من أن هذه المعلومات ليست بتلك الخطورة التي يمكنها تهديد الأمن القومي.
من العبث الحديث عن الحقوق والواجبات، ونحن نقفز عن موضوع حرية الصحافة وضرورة الوصول إلى المعلومة لتنوير الرأي العام.
إذ لا صحافة دون معلومة ولا معلومة من دون حرية تكفل البحث عنها بين دواليب الإدارات والمؤسسات دون خوف من متابعة جنائية.
الصحافة مرآة المجتمع ولا ديمقراطية دون هامش معقول من الحرية والإنصاف لعمل أصحاب هذه المهنة.
وهنا نشير إلى الكثير من الاحتجاجات الاجتماعية التي وقعت بالمغرب لحد الآن وكانت نتيجة فشل عدة مشاريع تنموية غابت عنها المراقبة وحضرت فيها أيادي الفسـاد ونهـب الميزانيات والغـش في التنفيذ، مع غياب المحاسبة والإفلات من العقاب.
فالمطلوب هو تسليط الأضواء الكاشفة على كل المشاريع التنموية، والتركيز على ما شابها من اختلالات فاضحة. فلا تحديث ولا دمقرطة للإدارة، من دون وضع اليد على مكامن الفساد فيها ومحاربته وتحجيم وجوده وتأثيره، وهذا لا يتأتى دون إعادة الاعتبار للصحافة الحرة المسؤولة، مع حرية الوصول إلى المعلومة خدمة للديمقراطية وترسيخا للحكامة