‘كيف التصرف مع شخص متطرف’.. مزج الوقاية بالعلاج
التفاؤل بمستقبل أقل تطرفا وكراهية وأكثر اعتدالا وتعايشا، بات أمرا ممكنا، وذلك على ضوء معطيات ومؤشرات ميدانية ونظرية عديدة ومتنوعة، ولعل أهمها هي تلك الصحوة الحميدة وعودة الوعي لدى الكثير من الشبان الذين سبق لهم أن تورطوا في الانخراط مع الجماعات الإرهابية والشبكات التكفيرية، ثم تابوا وعاد إليهم رشدهم فدونوا ووثقوا تجاربهم بالعرض والتحليل والتصحيح على ضوء الفهم الحضاري والتسامحي للدين كما في تجربة الشابين في بلجيكا، لورا وهشام، اللذين تخلصا من أخطبوط التطرف والإرهاب، نجا بنفسيهما من جحيم الإرهاب ثم وثقا تجاربهما في كتاب مهم ونافع.
لورا باسوني وهشام عبدالجواد، الأولى كانت تنتسب إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والثاني كان محسوبا على التيار السلفي الإسلامي.
يحكي هشام ولورا في كتابهما “كيف ينبغي التصرف مع شخص متطرف؟” الصادر مؤخرا بباريس، عن تجربتيهما ويحاولان توعية المراهقين البلجيكيين بخطر الخطاب الجهادي وتحذيرهم من مغبة الانضمام إلى شبكات داعش والمتطرفين عموما.
لورا باسوني بلجيكية في الثلاثين من العمر وأم لطفلين. هي مثال حي لما يسمي بـ“العائدين” كما يطلقون عليهم في الغرب. هؤلاء الجهاديون والجهاديات الذين التحقوا بتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق ثم عادوا إلى أوروبا أو يحاولون العودة إما نادمين وإما للقيام بعمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية.
لورا باسوني عادت من سوريا نادمة سنة 2015 بعدما تبعت زوجها إلى هناك حيث قضت 9 أشهر كاملة في محافظة الرقة السورية التي كانت مركزا للجماعات الإرهابية، وهي اليوم تائبة وتعمل كل ما في وسعها لتجنيب الشبان السقوط في الفخ الذي سقطت فيه. أما هشام عبدالجواد فهو من أصل مغربي/ مصري كان سلفيا متطرفا في شبابه وهو اليوم مؤرخ أديان، متعمق ومتبحر في العلوم الإسلامية.
الوسائل متوفرة للرد على الفكر الأصولي وتتمثل في المقاربة التاريخية والقراءات الأنتروبولوجية للتراث الإسلامي
يقدم المؤلفان في كتابهما طريقة تعليمية جديدة بعيدة عن الوعظ والإرشاد وتقديم النصائح للشبان والشابات، إذ أن الكتاب عبارة عن عرض شامل للتجربة ثم محاولة تحليلها والوقوف على أخطائها، ففي البدء تسرد لورا باسوني في صفحات عديدة قد تصل إلى 20 صفحة وبالتفاصيل، تجربة محددة عاشتها سواء أثناء المرحلة التي كانت متطرفة فيها أو في مرحلة وجودها بين صفوف الجهاديين في سوريا، ثم يأتي دور هشام عبدالجواد ليعلق على ما جاء في نص لورا شارحا وموضحا ومفندا ومفككا ادعاءات الخطاب الداعشي الذي تم به تضليل زميلته وغيرها من الشبان والشابات في الغرب.
في 11 فصلا و200 صفحة ونيف، تتحاور التجربة ممثلة في لورا باسوني، والمعرفة الدينية متمثلة في هشام عبدالجواد، لنحصل في النهاية على كتاب قيم، ثري ومهم، يكشف أيديولوجية تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية برمتها، ويفتح مجالا للقراءة الهادئة، الواعية والرصينة، ويقدم أدوات قوية لمقاومتها.
الكتاب هو ثمرة تجربة الكاتبين فكل فصل مبني على الطريقة التالية: شهادة لورا بوصف جانب من جوانب تجربتها مع داعش، تفكيك المنطق الداعشي وتهديم أيديولوجيته.
يتطرق الفصل الأول مثلا في جزئه الأكبر إلى الكيفية التي انتهجها تنظيم داعش لتجنيد لورا ويتحدث عن الآيات القرآنية التي لقنها لها عن طريق ممثلها على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي تدعو كلها للقتال وارتكاب العمليات الإرهابية دفاعا عن الإسلام والمسلمين المظلومين، وكيف يعيد هشام عبدالجواد الأمور إلى نصابها معطيا دلالات أخرى للآيات والأحاديث انطلاقا من ردها إلى سياقها التاريخي الخاص.
“حينما كنت متطرفة”، تكتب لورا، “وكان الجهادي الذي يتولى تدعيشي يقدم لي الآيات 190 و191 و192 و193 من سورة البقرة على أنها توجب قتال المشركين في كل زمان ومكان وأن قتالهم حق وأن غير المسلمين لا يفهمون ديننا ويريدون أن نندمج معهم ونترك ديننا”.
ويختار صيادو الأبرياء تلك الآيات بغية تجنيدهم والتلاعب بعقولهم وجعلهم يحقدون على مجتمعهم ويناصبونه العداء. وتقول “إن في ذلك الوقت كنت أجد الأمر عاديا بل من الواجب أن يذهب الرجال إلى سوريا لقتال الغربيين أولائك الذين لا يحبون الإسلام ومن واجب المسلمين في نفس الوقت مساعدة الشعب السوري المسلم.. لقد كنت أعتقد أنهم يريدون الخير ويدافعون عن الحرية“.
تنظيم داعش الإرهابي يخلق صراعا خياليا كونيا يجعل من القتل والاغتصاب والتعذيب والتدمير أوامر إلهية مقدسة
ويتدخل هشام تحت عنوان “التوضيح” في كل مرة في محاولة لتنسيب وتصويب الأمور وعقلنة ما هو قابل للعقلنة والمنطق، فيشرح الوضع منبها أن لهؤلاء الإرهابيين استراتيجية تضليلية معروفة فخطابهم الموجه للشبان الأوروبيين سياسي بامتياز، ومتجذر في الواقع الآني ومن هذا الواقع يقرأون القرآن ويفسرونه ومن هنا يصبح القرآن تابعا للسياسة في حين أنه نص ينتمي إلى القرن السابع الميلادي قبل كل شيء، ولا يعرف بطبيعة الحال الوضع الجيو-سياسي الحالي.
فالقرآن يجيب على أسئلة طرحت على معاصري الرسول في القرن السابع وليس على إشكاليات مطروحة في القرن الحادي والعشرين. ولا ينفي المؤرخ هشام عبدالجواد وجود آيات عنف في القرآن كما هو الحال في العهد القديم، ولكن المهم ليس العنف المعبر عنه بل الإطار الذي وجد فيه، إذ كان العرب يقاتلون من أجل البقاء، بقاء المجموعة داخل صراعات محدودة متواضعة وقبلية. وكل هذا لا يمت بصلة للوضع الحالي فداعش يخلق صراعا خياليا كونيا يجعل من القتل والاغتصاب والتعذيب أوامر إلهية.
ويقدم كتاب “كيف التصرف مع شخص متطرف” طرق تفكير وأدوات ملموسة من أجل مقاربة مسائل شائكة تؤرق الشبان مثل الاختلاط بين الجنسين، نهاية العالم، الهوية، الشهادة، الآخرة، الخلافة وغيرها من المفردات والأسئلة والقضايا التي قد تبدو مبهمة وملغزة في ذهن المراهق ويأتي خطاب الإسلام السياسي كي يعزف عليها.
كل هذه الأمور وغيرها يناقشها الكاتبان مع تلاميذ المدارس في بلجيكا بغية تحذيرهم من مغبة الانصياع لخطاب داعش، وقد التقى الكاتبان بحوالي 1500 تلميذ لحد الآن.
وتقول لورا باسوني في آخر الكتاب إنه لو كانت لي فرصة استماع إلى خطاب آخر لما خدعت بخطاب داعش. أما هشام عبدالجواد، فينهي كلامه متفائلا قائلا إن الوسائل كثيرة، ممكنة ومتوفرة للرد على الفكر الأصولي المتطرف، وتتمثل في البحث والمزيد من الاستقصاء والتثبت والتوسع في المراجع والمصادر، وكذلك، وبشكل أساسي، المقاربة التاريخية والقراءات الأنتروبولوجية للتراث الإسلامي.