شجار في الغابة السياسية الجزائرية

تضخيم الخلاف بين الـرئاسة وبين الحكومة غير واقعي ولا يستند إلى أي تباين مبدئي حول الخيارات الوطنية أو حول العقيدة السياسية.

هناك مثل شعبي شائع ومتداول في الجزائر يقول بأن “السياسيين كالقردة في الغابة إذا تشاجرت أفسدت الزرع وإذا تصالحت أكلت المحصول”. أليس هذا ما يحصل الآن بالضبط في الساحة السياسية الجزائرية؟

من المعروف أن فترة ارتفاع أسعار الغاز والبترول قد شهدت مصالحة توفيقية وتلفيقية رومانسية بين نخب من رجال الأعمال المختارين، وبين القيادات السياسية والعسكرية والأمنية المنخرطة في التجارة وتكديس الأموال وبذلك تمكنوا جميعا من بلع مليارات الدولارات واستنزاف الاقتصاد الوطني.

أما مرحلة انحدار أسعار الطاقة التي تمر بها الجزائر في الوقت الحاضر فقد أدت، ولا تزال تؤدي، إلى نشوب الشجار السياسي (خاصة منذ إصابة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بالمرض الذي أقعده عن ممارسة النشاط السياسي الطبيعي إلى يومنا هذا) بين الفصيل التقليدي المؤيد للقطاع العام داخل أجهزة النظام الحاكم في الجزائر، وبين القطاع الخاص الطفيلي الذي خلقه هذا النظام نفسه من العدم انطلاقا من ثمانينات القرن العشرين.

ولا شك أن هذه المرحلة الراهنة قد كرست في الجزائر الغلاء الفاحش للمعيشة وارتفاع نسبة الفقر بشكل متزايد، وخاصة بين صفـوف الشباب والعمال البسطاء والفلاحين، وتفاقم الجرائم الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن بروز ظواهر غريبة كل الغرابة عن طبيعة المجتمع الجزائري كتدني الأخلاق وتوحش العلاقات البشرية بشكل سافر.

في هذا السياق نتساءل؛ هل الخلاف الذي طفح على السطح مؤخرا بين الوزير الأول أحمد أويحيى وبين الرئاسة بخصوص قضية الخوصصة هو خلاف حقيقي ومبدئي فعلا، وهل تعني التعليمات الصادرة عن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة هذا الأسبوع والرافضة لبيع المؤسسات الكبرى للقطاع الخاص أن الخلاف بين الوزير الأول أحمد أويحيى وبين رئيس الدولة هو صراع حول خيارات البلاد وحول الرئاسيات القادمة على نحو متزامن؟

ثم هل نفهم من تراجع الرئيس بوتفليقة عن الخوصصة الشاملة التي يريدها فصيل رأسمالي داخل أجهزة الدولة في كل من الرئاسة والجيش والحكومة، أن الفصيل التقليدي في صلب بنية النظام الجزائري، وفي واجهته الأمامية الرئيس بوتفليقة، قد أدرك أخيرا أن القطاع الخاص قد أصبح خطيرا عليه وتحديدا على الانتخابات الرئاسية القادمة؟

ثم ماذا يعني موقف حزب جبهة التحرير الوطني المعارض لفكرة بيع وتخصيص المؤسسات الاستراتيجية للقطاع الخاص بعد أن دشن هذا الحزب نفسه، بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين مباشرة، مرحلة الانتقال من النظام الاشتراكي التقليدي البدائي إلى نظام اقتصاد السوق الاستغلالي والمستورد؟

ما يحدث في الساحة السياسية الجزائرية من مشاغبات لا يعني أننا أمام صراع حول خيارات وطنية، بل إننا أمام أزمة تعيشها الجزائر بعد الفشل الذريع في تحقيق التنمية المتطورة على مستوى جميع القطاعات

لا شك أيضا أن بانوراما المشهد السياسي الجزائري الراهن مشكلة من تناقضات كثيرة، وأن ما يبدو على السطح فيه ليس هو التعبير الدقيق عما يوجد في جوهره.

وفي الحقيقة، فإن الخلافات السياسية الشكلية التي تقدمها لنا وسائل الإعلام الجزائرية بشكل مطرد على أنها ترجمة أمينة لخلاف جوهري بين مؤسسة الحكومة ومعها بعض الجهات التي تدور في فلكها، وبين مؤسسة الرئاسة وواجهتها الحزبية المتمثلة في حزب جبهة التحرير الوطني، ليست جدية بأي مقياس من المقاييس، لأن الوزير الأول السيد أحمد أويحيى ليس شخصية سياسية معارضة أو مستقلة أو اشتراكية، بل هو وجه من وجوه الرأسمالية الجزائرية المتوحشة، كما أنه الابن المدلل للنظام الجزائري الذي يقوده الرئيس بوتفليقة، وفي الوقت نفسه فإن السيد أويحيى لا يمثل أي خطر حقيقي مستقبلي على رئيس الدولة، لأنه لا يملك جذورا تاريخية متأصلة في حركة التحرر الوطني، كما أنه يفتقد إلى القاعدة الشعبية الواسعة سواء في المنطقة الأمازيغية التي ينتمي إليها إثنيا، أو في داخل الجزائر العميقة بشكل عام.

كما أن حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يسيره أويحي الآن، بوصفه أمينه العام، ليس سوى جهاز سياسي بيروقراطي من إنشـاء النظام الحاكم، وبذلك فهو جزء يميني عضوي من تركيبة هذا النظام البشرية ومن عقيدته السياسية المترهلة وأيديولوجيته الفضفاضة.

تأسيسا على ما تقدم فإن تضخيم الخلاف بين الـرئاسة وبين الحكـومة هو شيء غير واقعي وهـو لا يستند إلى أي تباين جدي ومبدئي حول الخيارات الوطنية أو حول العقيدة السياسية، بل هو في تقديري مسرحية متقنة الإخراج يلعبها النظام الجزائري بمختلف ممثليه من أجل تحقيق عدة أهداف، وفي مقدمتها إلهاء الرأي العام الوطني الشعبي عن المسائل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع الجزائري مثل تدهور مستوى الدخل الفردي وفشل النظام الحاكم في تحديث الأطر التي بمقتضاها يمكن أن تحقق الدولة الجزائرية التحول من دولة الطوارئ والقفز في الظلام إلى دولة المؤسسات والعصرنة في جميع المجالات.

إلى جانب هذا فإن المحركين للعبة السياسية الجزائرية من وراء الستار يريدون بإثارة قضية وهمية وهي قضية الخلاف حول الخوصصة إظهار النظام السياسي الحاكم بقيادة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بأنه هو الذي يقود البلاد ويتحكم في الصغيرة والكبيرة.

وفضلا عن ذلك فإن هذا السيناريو يحاول تسويق الرئيس بوتفليقة بشكل متواصل كقائد بالحضور الكلي وبالقدرة الكلية في المشهد السياسي الجزائري رغم معاناته المزمنة للمرض تمهيدا لإنتخابات جديدة .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: