مآلات الثورات العربية أكبر درس للشباب بأهمية تحرير العقول

يراهن الشباب العربي اليوم على إصلاح المجتمعات وإحداث التغيير الحقيقي والخروج من حالة اليأس والتردي بثورة العقل، لا سيما بعد النتائج الكارثية التي حققتها ما تسمّى بثورات الربيع العربي، التي أدخلت الشباب في نفق أكثر ظلمة وأظهرت مدى تحكم الموروث الديني بالعقلية الجمعية.

يستفيض الشباب بالحديث عن “انحدار العقل العربي” في الجامعات والمقاهي وخلف الشاشات والمنابر الثقافية التي تفضل الابتعاد عن هذه القضية ومواراتها، في حين أنها تتفاقم فعليا في المجتمع، وتعكسها مواقع التواصل الاجتماعي التي تنعى كل يوم صحوة العرب إلى مثواها الأخير، ليبقى صوت من ينادي بثورة العقل العربي خافتا.

ويرى الكثير من الشباب أن مآلات الثورات العربية أكبر درس بالنسبة إليهم، بأن إصلاح العقل هو نقطة الانطلاق لإصلاح المجتمعات، وهي القضية التي أثيرت من قبل كتاب عرب كبار، لكنها بقيت حبيسة الكتب ولم تطرح للنقاش على نطاق واسع، حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه اليوم من تدهور ويأس، جعل الحديث عنها يشوبه الإحباط أكثر من الأمل بالتغيير.

ويذهب بعض المفكرين والكتاب إلى أن من الخطأ الحديث عن القضية بشكل عام دون النظر إلى خصوصية كل مجتمع على حدة، وسبق أن تناول الدكتور هيثم الزبيدي، رئيس تحرير صحيفة العرب اللندنية، هذه المسألة في مقال بعنوان “خرافة إصلاح العقل العربي”، وقال فيه “يتجرأ كل مفكر عربي على استخدام مفهوم الوحدة اللغوية في العالم العربي لكي يطرح أسئلة من نوع، كيف نصلح العقل العربي؟”.

وأضاف “لأنه مشرقي أو شمالي يتحدث العربية، ولأنه من عاصمة مشعة ثقافيا، يفترض أن بوسعه توفير حلّ فكري شامل وموحد لأزمة العقل العربي التي يفترض أنها نفسها في أقصى الغرب أو الجنوب. كلنا يعرف أن هذا الجواب مفقود بعد عقود من إطلاق السؤال. كلما جاء جيل جديد، يطلق نفس السؤال، ويتراجع مكتئبا بأن العقدة في العقل الجمعي، وأن من الصعب أو حتى المستحيل، العثور على الجواب. لم يسأل الكثيرون ممن طرحوا السؤال إن كان هو السؤال المناسب. هل هناك عقل عربي حقا لكي نصلحه؟ أم هي عقول عدة، قد تكون عقولا متعددة في كل بلد وليس في بلدان مختلفة وحسب؟”.

الإسلام السياسي لم يرفض مقررات العقل السياسي التونسي وإنما عمل على احتوائها واستلابها وتحويل وجهتها لصالحه

الانطلاق من المجتمع المحلي

إذا كان البعض من المفكرين قد أطلقوا السؤال بصيغة جمعية كما أشار الزبيدي، فإن الشباب بالعموم حين يتناولون القضية ينطلقون من إطار محلي، ومن البيئة التي يعايشونها ويخضعون لمعاييرها وأحكامها.

ويقول محمد عامر، الطالب في كلية الاقتصاد من جامعة دمشق، “من الخطأ الاعتقاد بأن القضية محصورة بالوعي السياسي، فنحن بحاجة إلى ثورة العقل على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية، ولا نغفل المشكلة الأكثر تعقيدا، ألا وهي التجديد في المفهوم الديني”.

ويضيف عامر “نحن محبوسون في نص ديني جامد عفا عليه الزمن، ونرفض الخوض في إمكانية مواكبته مع مستجدات العصر، ومن يتجرأ بالحديث عنها يتّهم بالهجوم على الدين والإساءة إليه، وتخريب العقول”.

وتشكل مسألة تجديد الخطاب الديني عقدة المنشار في ثورة العقل العربي، فالعقلية الجمعية الغالبة ترفض أي مقاربة للإصلاح الديني وتغيير خطابه العام، الموروث منذ مئات السنين، والمشكلة الأكبر أنها ليست متعمّقة فيه بما يكفي لتحليله وقراءته وتبيان ما هو حقيقي أو مزيف ومختلق، وفق ما يقول أحمد دياب، الطالب السوري في كلية الآداب.

ويضيف “أننا بحاجة أولا إلى تحرير العقل العربي قبل الثورة على المفهوم السائد، فمن طرح هذا المفهوم من المفكرين، تعرض للهجوم والمحاربة، كما أن الإعلام نادرا ما يتطرق إلى هذه المسألة، وبالتالي مازالت مستهجنة بالنسبة إلى الكثير من الناس العاديين غير المثقفين الذين لم يفكروا أصلا بالمسألة ولم تطرح عليهم”.

النص الديني بلغة العصر

ينوّه إلى أهمية هذه المسألة بالقول إن النخب الثقافية تستثني الناس العاديين من هذا النقاش رغم أنهم المعنيون بالموضوع، وهم القاعدة الأساسية التي يجب البدء منها لإصلاح العقل العربي.

أشار عامر إلى مشروع المفكر السوري محمد شحرور، على مدى خمسين عاما، الذي أسس لمشروع فكري مختلف يعيد عبره قراءة النص الديني بلغة العصر، إلا أن الكثيرين انتقدوه وهاجموه دون أن يتمعنوا في الفكرة ومناقشتها بشكل عقلي، وذلك منذ إصداره كتابه الأول “الكتاب والقرآن” عام 1990.

الشباب المصري يفكر بمنظور مختلف بعد اندلاع ثورة يناير
ويقول شحرور إن “دراسة القرآن فتحت على مشروع أوسع بدراسة العقل العربي الجمعي، والشروع في تقديم أجوبة حول عجزه عن إنتاج المعرفة”. ويضيف أن “العقل العربي الجمعي يعاني من ثلاث مشكلات تكفي واحدة منها كي تعطّل عملية إنتاج المعرفة”.

لا نعرف كيف نفكر

من جهتها انطلقت الدكتورة نوال السعداوي، إحدى المفكرات الأكثر تمردا من مشكلات المجتمع المصري حين تناولت القضية، وقالت إن “العقل العربي والمصري بشكل خاص، لا يعرف كيف يفكر حقا”.

وأضافت، “أنا ضد تقسيم الناس إلى مفكرين وغير مفكرين، كأنما التفكير مهنة محتكرة. الفكر عمل إنساني. المشكلة أن المثقف لا يعرف كيف يفكر الفلاح. بل نحن جميعا لا نعرف كيف نفكر، وهذه مشكلة كبيرة جدا بالنسبة إلى الصحافة والإعلام والجامعة والطب”.

وتابعت، “لماذا لا يلعب المثقف دورا حقيقيا في حياتنا العامة. هذه النخبة التي تتوقف عن تحصيل العلم بعد التخرج، فيتوقف ما عندها من علم في ماض سرعان ما يصبح سحيقا، بفعل تقدم العلوم والمعارف في هذا العالم”.

وبالنسبة إلى الشباب المصري، فإن الغالبية منهم بدأوا يفكرون بمنظور مختلف بعد اندلاع ثورة يناير، فيقول ياسر فوزي في صفحته على فيسبوك، “المجتمع المصري يعانى من أزمتين مرتبطتين ببعضهما البعض هما فساد المجتمع وفساد العقل”.

ويضيف أن “المواطن الفرد نفسه عقله قد فسد ويظهر هذا واضحا في أزمة المواطن مع التابو والدوغما سواء العقائدية أو حتى في تعامل الثوار أنفسهم مع الثورة، حيث تحولت فكرة الثورة لدى الكثير من الناشطين المصريين إلى دوغما (فكرة معينة لدى مجموعة دون قبول النقاش فيها) غير قابلة للنقد، أضف إلى ذلك تحكم السلطة الدينية في عقل الإنسان المصري والإيمان بالخرافات والتفكير الدائم في الماضي”.

وتابع “في 25 يناير ثار المصريون على المجتمع ولكن بعدها لم تحدث ثورة على العقل أو عملية إصلاح لهذا العقل الفاسد، وبالتالي تعثر إصلاح المجتمع، وقد يحتاج إصلاح العقل إلى سنوات كثيرة ولكنه ضرورة إن لم تتم، لا يمكن لثورة أو إصلاح في المجتمع المصري أن ينجح لأن العقل المكون لهذا المجتمع فاسد”.

عقدة الإسلام السياسي

لعل المفهوم الديني الجامد في المجتمعات العربية الذي غذى أفكار الإسلام السياسي، هو قاسم مشترك ضد ثورة العقل العربي برأي الشباب، ويتناول التونسيون هذه الإشكالية بكثير من الحنق بعد الثورة، حيث طفت على السطح أفكار المتشددين والأصوليين. ويقول الكاتب والباحث التونسي مصطفى القلعي، إن “أول عملية صدّ واجهها العقل السياسي التونسي من قبل الإسلام السياسي، وذلك عندما كان المشهد السياسي ملتبسا إبان سقوط النظام السابق، فقرر هذا العقل السياسي بعد تردد أن يختار فكرة المحو والبدء من الأول على فكرة إصلاح الموجود”.

ثورات في غياب الوعي
وأضاف “لم يكن للإسلام السياسي أي دور في هذا الاختيار لأنه لم يكن قادرا على التّقييم والمبادرة باعتباره لم يكن مقيما في تونس ولا قدرة له على التفكير في الشأن التونسي والتأثير فيه عبرالمداخل العقليّة والفكرية والمؤسّساتية الاستشرافية. ولهذا اشتغل بأدواته الشعبوية الدخيلة على المشهد التونسي وغير الأصيلة والتي تقوم على أدوات شوفينية تصنف المواطنين والناشطين عبر ما يُظهِرونه من إيمان وتقوى لا عبر برامجهم وأفكارهم”.

وتابع “لم يرفض الإسلام السياسي مقررات العقل السياسي التونسي وإنّما عمل على احتوائها واستلابها وتحويل وجهتها لفائدته. ههنا تلقى العقل السياسي التونسي الضربة القاصمة التي جعلته يترنّح إلى اليوم فاقدا روح المبادرة. فالإسلام السياسي لم يكن كما قلنا وراء فكرة إجراء انتخابات تأسيسية ولكنه وظّف كل إمكانياته ليكون المستفيد منها”.

ومن جهته يتناول المفكر الدكتور مراد وهبة، المسألة من منظور علمي، مبيّنا أن القضية قديمة متجددة لا تقتصر على المرحلة الراهنة، وبين أن الشرط المطلوب لكي تكون فيلسوفا هو “إعمال العقل الناقد في الموروث أيا كان، مع تحمل النتائج المترتبة على ممارسة هذا الشرط”.

ويقول وهبة، إن اهتمامي برجل الشارع مردود إلى اهتمامي بالثورة العلمية والتكنولوجية، فالإرهاب يقوم به رجل الشارع لأن رجل الشارع ليس متنوّرا ولا يوجد فلاسفة يهتمون به، فقد ترك للتيارات الأصولية تعبث بعقله إلى أن المناخ الدولي أصبح محكوما برجل الشارع.

ونضرب مثالا علي ذلك، فعندما ذهب فرج عبدالسلام صاحب كتاب “الفريضة الغائبة” لرقيب اسمه حسين عباس وكان حاصلا على بطولة في الرماية، وقال له “مبروك أنت هتروح الجنة”، قال له لماذا؟ فرد قائلا “لأنك ستقتل السادات” فوافق بالطبع وكانت الطلقة الأولى لاغتيال السادات من حسين عباس

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: