الحفاظ على مناخ التعايش في المغرب يتطلب الارتقاء بخطبة الجمعة
دولة المغرب المعروفة كنموذج للتعايش والتنوع والتقارب بين مكونات المجتمع في العالمين العربي والإسلامي، لا تنفك تضع الخطط والمشاريع في سبيل الإبقاء والحفاظ على هذه الميزة التسامحية التي تميّزت بها عبر التاريخ، ومن أهمها خطبة الجمعة لما لها من دور أساسي في التوعية وإرشاد المؤمنين إلى القيم السامية التي تلتقي عندها كل الديانات، وهذا ما يعمل عليه المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه الملك محمد السادس بصفته أميرا لكل المؤمنين في البلاد.
يحرص المغرب على الرقي بعمل خطباء الجمعة تماشيا مع ما يحدث داخل المجتمع من تطورات قيمية ومستجدات على عدة مستويات اجتماعية ونفسية واقتصادية تؤثر في تشكيل هويته ونظرته إلى العالم، وهذا ما كشف عنه المجلس العلمي الأعلى في آخر اجتماعاته في آخر ديسمبر الماضي، حيث أعلن عن خارطة طريق جديدة، سترسم لخطباء المساجد السكة التي ينبغي أن يسير عليها قطارهم، وهم يعتلون المنابر من أجل إلقاء خطب الجمعة.
وتلزم الخطة التي سيتم اعتمادها مع مطلع سنة 2018، الأئمة بإظهار خطب الجمعة بوجه جديد، وإحاطتها بـقدسية تحفظ استمراريتها في حرمة تامة، وتحدد آفاق مستقبلها.
ويأتي هذا التقييد والتوجيه من طرف أعلى مرجعية دينية بالمغرب، بعدما تم تشخيص صادم لواقع خطبة الجمعة، حيث تبيّن أنها لم ترق بعد إلى المستوى المطلوب، ولم تعط للأمة ما كان منتظرا منها أن تعطيه، مضيفة أنه “مازالت مردوديتها دون المرجو، ومازال تأثيرها في الناس محدودا”.
كما تبيّن عجز خطبة الجمعة عن ترسيخ الثوابت، بسبب عدم كفاية المنهج المتبع، وقصور الآليات المستعملة، لأن الخطبة في نظر الخطة الجديدة، لم تأخذ مكانها بين وسائل التأثير المختلفة، وعلى رأسها الإعلام بالرغم من طبيعتها الدينية التي توفر لها فرص النجاح.
ويعتقد عبدالإله السطي، الباحث في الحركات الإسلامية والشأن الديني، في تصريح لـ”العرب”، أن الخطة الجديدة التي اعتمدها المجلس العلمي الأعلى بخصوص خطب الجمعة هي تكريس لوصاية الدولة على الشأن الديني، التي تشكل المساجد أحد روافده خصوصا وأن خطبة الجمعة تعتبر آلية للتوعية والتعبئة الدينية، وفي نظر المجلس يجب أن يكون لها إطار يضبط مضمونها وتوجهاتها، وذلك لما تشكله من دور بارز في توجيه الخطاب الديني لشرائح كبيرة من الشعب المغربي.
وللارتقاء بخطب الجمعة، سيعمل المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه الملك محمد السادس بصفته أميرا للمؤمنين، وبتنسيق مع وزارة الأوقاف تم تزويد الخطباء بدليل محين متجدد، يرسم لهم معالم الطريق، ويجنبهم الارتجال والحيرة والتيه، في الوقت الذي منعتهم الخطة من نقل خطب الجمعة من الإنترنت، أو من دواوين خطب قديمة تجاوزها العصر، أو دواوين تخالف ثوابت الأمة واختياراتها، وألزمتهم كذلك بمعرفة أن هناك فاعلين آخرين، بعضهم يعمل مع الخطيب بنفس المنطق وإن بأساليب مختلفة، وبعضهم يعمل لأهداف مخالفة لأهدافه، ويراهن معه على استقطاب نفس الجمهور.
ضرورة الحرص على عدم الإخلال بشروط الطمأنينة والتسامح، الواجبة في الأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي
واعتبرت خطة المجلس العلمي الأعلى، تعمّد بعض الخطباء الإشارة قبل إلقاء الخطب الموحدة إلى مجيئها من جهة رسمية معينة بما يضعف أثرها، وأن الخطباء المغاربة ملزمون بإلقائها فيشي ذلك بأنها بمثابة أخطاء فادحة يجب تركها.
ويلوم المجلس الأعلى خطباء المملكة بعدما عجزت خطبهم المنبرية عن احتواء التغييرات الاجتماعية والثقافية، وتطويق الفتن وتجفيف منابع الخلاف، مشيرا إلى ارتفاع موجة الاحتجاجات والعنف، التي وصفتها الوثيقة بالظواهر السلبية التي ما كان لها أن توجد لو أدّت الخطبة دورها كما ينبغي.
ويرى الباحث المغربي في الحركات الإسلامية والشأن الديني، أنه كان من الممكن استثمار خطبة الجمعة لخلق وعي ديني يتماشى وتطورات العصر ومستجدات الحياة اليومية، لهذا من المفروض أن ننتقل من الشكل التقليدي لهذه الخطب الذي يقتصر على تناول مواضيع عامة أو تاريخية من أجل الموعظة والتذكر، إلى بعد نهضوي يكرس الفعالية لدور المؤمن في المجتمع، وترشيد ممارساته التي جعلت منه رافضا من روافض التنمية الفكرية.
يقول عبدالإله السطي، إن ذلك يمكن أن يتم عبر تناول مواضيع تلامس الواقع المعيش وسبل نهضتها وتطويرها، من هنا سنتحول من خطب جمعة نمطية إلى خطب جمعة نهضوية، تساهم في بناء الإنسان قبل الإيمان.
وفي إطار المهام الموكولة لخطباء الجمعة يمنع عليهم بظهير رسمي، ممارسة أي نشاط سياسي أو نقابي، أو اتخاذ أي موقف يكتسي صبغة سياسية أو نقابية، أو القيام بأي عمل من شأنه إيقاف أو عرقلة أداء الشعائر الدينية، أو الإخلال بشروط الطمأنينة والسكينة والتسامح والإخاء، الواجبة في الأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي.
ويؤكد الظهير ذاته على أن الهدف هو “رغبة الملك في تنظيم مهامهم، لما لها من حميد الأثر في صيانة ثوابت الأمة، وبناء مجتمع متراص متضامن، متمسك بمقوماته الروحية ومتفتح على روح العصر بعيدا عن كل تعصب أو غلوّ أو تطرف”.
ولتجاوز عدم انخراط خطباء المساجد وتعاطيهم مع هموم المواطنين، كشفت خطة المجلس الأعلى أن الكلام عن هموم الناس لا يعني الحديث عن تفاصيل هذه الهموم، سواء كانت عامة تهم المجتمع، أو خاصة تهم الأفراد، بل المقصود والمطلوب من الخطباء في الخطة الجديدة، هو بيان جذور الهموم والمشاكل المجتمعية، وهي التي تعود إلى عدم محاسبة النفس وقلة الشكر، وإلى الشح والأنانية والكذب وعدم الحرص على أداء حقوق الله والغير.
الخطة الجديدة التي اعتمدها المجلس العلمي الأعلى بخصوص خطب الجمعة هي تكريس لوصاية الدولة على الشأن الديني، التي تشكل المساجد أحد روافده
ويتوجب على خطباء المساجد بالمغرب عدم إثارة قضايا لا تعني الناس، ولا يحتاجون إليها، بل تشوش عليهم وتربكهم، كما شددت خارطة طريق المجلس العلمي الأعلى،على أن الخطباء ليسوا قضاة ولا دبلوماسيين ولا إعلاميين يقومون بتغطية الأحداث، ولا أطباء ولا من أصحاب الاختصاصات الاقتصادية والقانونية والعلمية.
ويبقى السبيل الوحيد لتحقيق ذلك حسب السطي، هو اعتماد منهج علمي في التكوين، تجعل من إمام المسجد رجل علم وفقه يمتح من كل العلوم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية ومبادئ التواصل، هذا إلى جانب التكوين الفقهي العصري، الذي يتجاوز الأنماط التقليدية في التكوين التي تقتصر على بعض المدارس التقليدية في أصول التفسير والحديث.
وأكد محمد يسف، الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، على أن ينتقل العلماء من مرحلة في العمل وفق برنامج قديم إلى العمل بأسلوب جديد يكون خطوة سريعة نحو اليقظة الروحية، ويرشد إلى كيفية ضبط الأمن المعنوي للأمة في هذا البلد، وكيف يمكن إيقاف التحرشات بالاختيار المغربي لدى أهل السنة، من خلال تقويم العمل في المساجد على حماية ثوابت الأمة عبر رصد من المجالس العلمية المحلية، والنظر في أساليب نشر ثقافة القيم لدى أكبر عدد من المواطنين اتباعا لوصايا الدين.
أما في ما يتعلق بمضمون وفعالية خطة المجلس العلمي الأعلى المزمع نهجها سنة 2018 فيقول عبدالإله السطي، الباحث في الحركات الإسلامية والشأن الديني، أنها تأتي في سياق تجديد تصور المجلس لخطبة الجمعة وفعاليتها لدى المواطنين، خصوصا في ما يتعلق بثوابت الأمة والمقصود بها التوعية بأدوار إمارة المؤمنين في الحقل المجتمعي المغربي، والحفاظ على المذهب المالكي بنهج الجنيد كمنهج ديني بكل روافده وأبعاده الصوفية.
وفي نظر عبدالإله السطي، سيكون التوجه قائما في المستقبل على التركيز بدرجة أولى على تكريس المزيد من التوعية الدينية بأهمية هذا المذهب وقراءته للنصوص الدينية.